كتب – المحرر السياسي:
يلجأ الباحثون ومعدو التقارير العلمية والصحفية إلى الحقائق والأرقام لإضفاء المصداقية على ما يقولون سواء كان الهدف رفع الوعي بقضية مهمة أو التعبئة العامة لمواجهة قضايا خطِرة.
لكن ما ينشر عن الحرب في أوكرانيا من حقائق وأرقام لم يكن له عميق الأثر في كلا الحالتين، بدليل أن الأطراف تمعن في التصعيد ويتباهى كل طرف بما يكبده من خسائر للطرف الآخر، وكأن الأرواح التي تزهق والأموال التي تهدر تعود لكوكب آخر.
وإذا كان العام الثاني من الحرب في أوكرانيا نسخة طبق الأصل من العام الأول، فسوف تسيطر روسيا على ما يقرب من ثلث أوكرانيا في فبراير/شباط المقبل.
وقد يتفق المراقبون حالياً على أن حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا كانت خطأ استراتيجياً وفقاً لهذا المنظور. وعلى الرغم من أن الحرب أضعفت الموقف الروسي عموماً على المسرح الجيوسياسي، لا بد من الإقرار بأن روسيا نجحت في إضعاف أوكرانيا بشدة على الأرض.
تقرير ميداني
وقد لخص التقرير الذي نشرته مجلة «فورين بوليسي» الوضع في ساحة المعركة في نهاية العام الأول من الحرب الروسية، موثقاً الحقائق من منظور المؤشرات الرئيسية التي تشمل المكاسب والخسائر الإقليمية، ووفيات المقاتلين والمدنيين، وتدمير البنية التحتية، والآثار الاقتصادية، مفصلاً الحقائق بعجرها وبجرها.
فعلى مستوى ساحة المعركة استولت القوات الروسية على 11٪ إضافية من أراضي أوكرانيا. وعندما يضاف ذلك إلى الأراضي التي تم الاستيلاء عليها نتيجة ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، فإن هذا يعني أن روسيا تسيطر الآن على ما يقرب من خمس مساحة البلاد. كما تعرض الاقتصاد الأوكراني للسحق، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من الثلث. وتعتمد أوكرانيا الآن على الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ليس فقط في عمليات التسليم الأسبوعية للأسلحة والذخيرة، لكن أيضاً في الإعانات الشهرية لدفع رواتب جنودها ومسؤوليها ومتقاعديها. وقد تم تدمير أو تعطيل أو السيطرة على أربعين في المئة من البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا.
ونشر التقرير عشرات المؤشرات الأخرى التي تلقي الضوء على نتائج وكلفة عام واحد من الحرب في أوكرانيا. من بينها أحد أسرار كييف الأكثر تكتماً أي عدد الإصابات في القوات الأوكرانية. هنا نؤكد أن التغطية الصحفية الغربية للحرب لم تقدم سوى القليل من التفاصيل حول هذه الخسائر، لكن تقديرات موثوقة للحكومة الأمريكية أكدت أن أكثر من 130 ألف جندي أوكراني قتلوا أو أصيبوا بجروح خطِرة – وهو نفس العدد تقريباً الذي فقدته روسيا التي يزيد عدد سكانها على 3 أضعاف سكان أوكرانيا. إضافة إلى ذلك، قتل نتيجة القصف أكثر من 7000 مدني أوكراني، وأجبر ما يقرب من 1 من كل 3 مواطنين أوكرانيين على الفرار من ديارهم. واليوم، هناك 8 ملايين لاجئ أوكراني خارج حدود بلادهم.
ومع استمرار الصحافة الغربية في تسليط الضوء على «نجاحات» أوكرانيا، يجب علينا أيضاً أن ندرك أنـــه إذا ســـــارت العمليــــات العسكرية خلال العام الثاني على نفس منوال العام الأول، سوف تسيطر روسيا على ما يقرب من ثلــــث أوكرانيــــا في فبرايـــر/شباط 2024.
ارتفاع العائدات الروسية
وتفرض الحرب، بالطبع، تكاليف باهظة على روسيا أيضاً. لكن حتى الآن، لم يظهر بوتين أي تردد في توفير كل ما تتطلبه الحرب. ولعل ما يريح بوتين هو أن أشد هذه التكاليف ألماً، بما في ذلك خسارة موسكو الأسواق الأوروبية لتصدير النفط والغاز الروسي، سوف يكون محسوساً على المدى الطويل. من هنا فقد أظهرت موسكو مرونة مذهلة في التكيف مع العقوبات الشاملة غير المسبوقة. فعلى الرغم من ادعاء الحكومات الغربية أن هذه العقوبات خانقة، فإن عائدات روسيا من صادرات النفط والغاز ارتفعت في الواقع العام الماضي، ولم تنخفض. وبقي الاقتصاد الروسي قوياً ولم ينهار، على عكس توقعات معظم المعلقين الغربيين. كما تشير أحدث البيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، إلى أن الاقتصاد الروسي تراجع العام الماضي أقل بكثير مما كان متوقعاً – بنسبة 2.3 في المئة فقط – ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يعود إلى النمو الإيجابي في عام 2023. و بينما انخفضت قيمة العملة الأوكرانية بنسبة 18 في المئة، ارتفعت قيمة الروبل الروسي بنسبة 14 في المئة.
لكن هذا لا يعني أن روسيا خرجت منتصرة على الأرض. فمنذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، تعثر التقدم في ساحة المعركة وكان صافي التغيير في السيطرة الإقليمية لصالح روسيا بمقدار 75 ميلاً مربعاً فقط. وبينما تستعد كل من روسيا وأوكرانيا لهجمات كبرى جديدة في المستقبل القريب. وهناك عوامل غير قابلة للقياس في تحديد معايير الفوز والخسارة مثل الروح المعنوية والقيادة وإرادة للقتال وحرب المعلومات والدعم الدولي. في هذا الإطار يمكننا الحكم على قرار الحرب بأنه كان قراراً فاشلاً من الناحية الاستراتيجية، بغض النظر عن مبرراتها. لقد أعاد بوتين إحياء شعور الأوكرانيين بالهوية والثقة في قدرتهم على بناء دولة حديثة قابلة للحياة. وبدلاً من ضمان عدم انضمام أوكرانيا أبداً إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو، فقد جعل عضويتها في هذه المؤسسات أكثر ترجيحاً من أي وقت مضى.
وإذا كان لكل طرف منظوره الخاص في الحكم على نتائج المعارك، فلا بد أن يكون منطق العقل مرجحاً لدى الأطراف المحايدة التي لا تكف عن الدعوة إلى الحل الدبلوماسي، كان أحدثها خطة السلام الصينية التي يعلق عليها العالم الآمال بالخروج من عنق الزجاجة، وضرورة وقف حرب مزقت العالم وقطعت شوطاً طويلاً في استنفاد مقدراته التي هو في أمسّ الحاجة إليها لمواجهة الأزمات المتتالية خاصة أزمة المناخ وما ينجم عنها من كوارث.