أصبح الناخبون في جميع أنحاء العالم ينظرون إلى أنظمة الأحزاب الديمقراطية المؤسسية على أنها مجموعات من النخب تعمل ضد «الشعب». يعاين هذا العمل كيفية تخريب الحركات الشعبوية المؤسسات السياسية من الداخل وتقويض الديمقراطيات، ويسعى إلى تقديم مقترحات لإجراء إصلاحات في الهياكل الديمقراطية.
عزّز انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 من حدة التيار الشعبوي في أمريكا والعالم، وأصبح معظم الاهتمام منصباً منذ ذلك الحين على التهديد الذي يشكله هذا التيار على الديمقراطيات. يقدم المؤلف صموئيل إيساتشاروف نظرة موسّعة على هذه الظاهرة السياسية المتفشية، حيث يغطي بلداناً من جميع أنحاء العالم، ويركز على هجوم الشعبوية على مؤسسات الحكم، ويرى أن الديمقراطية تتطلب ميزتين أساسيتين: أولاً، الالتزام بتكرار اللعبة السياسية بحيث يفهم الفاعلون السياسيون أنه كما تدين تدان. وثانياً، القيود المؤسسية، ويجد أنه يجب على الديمقراطيات أن تتجنب سيناريو «الحسم النهائي» الذي ترى فيه الأحزاب المتنافسة الانتخابات التالية كخيار أخير بين الخلاص والهلاك. يُظهر المؤلف كيف يقوض الحكم الشعبوي كلاً من هذين الركيزتين الأساسيتين للديمقراطية المستقرة، وفي الوقت نفسه، يسلط الضوء على حقيقة أن الشعبويين الصاعدين استفادوا من الثغرات الحاصلة في ديمقراطيات عانت حالات سيئة في عالم ما بعد عام 2008.
ويشكل الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد في 2023 قراءة أساسية لأي شخص يهتم ببقاء المؤسسات الديمقراطية. يركز كل جزء من الكتاب على العلاقة بين الشعبوية وكيفية حكم المجتمع الديمقراطي، ويتناول ثلاث قضايا أساسية هي: مصادر الصعود الشعبوي ضد النظام الديمقراطي القائم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ الأبعاد المؤسسية للحكم الشعبوي، والإصلاحات التي قد تعيد بعض الشعور بالنظام في بيت الديمقراطية.
تهديد الشعبويين
يبدأ المؤلف بملاحظة بسيطة مفادها أن الديمقراطية اليوم تعيش تحت الحصار، ولكن من مصدر لم يكن من الممكن تخيله في العالم قبل سقوط جدار برلين. يقول: «في معظم القرن العشرين، كان التهديد الوجودي للديمقراطية هو الحكم الاستبدادي. ولدت اللغة الحديثة لحقوق الإنسان لإحباط استخدام سلطة الدولة في إخضاع السكان لإرادة الحكام. حددت حقوق الإنسان عدم قابلية التصرف في جوهر كرامة الإنسان غير القابلة للاختزال. كان صاحب الحقوق هو الفرد المعرض للخطر. في المقابل، أصبح خطاب الحقوق هذا هو اللغة المشتركة للسلطة القضائية التي تم تمكينها وترسخت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ثم عبر الكثير من دول العالم في الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي بعد عام 1989».
ويضيف: «انتهى القرن العشرون برؤية معينة للديمقراطية الليبرالية القائمة على السوق منتصرة على منافسيها الأيديولوجيين من الفاشية والشيوعية. تضمنت الملامح غير الدقيقة للديمقراطية الصاعدة الأسواق القوية بشكل عام، وحماية رفاهية المواطنين، والالتزام الكبير بالعلمانية (حتى في البلدان التي توجد بها كنيسة قوية)، والتسامح الليبرالي مع المعارضة والمنظمات السياسية المتنافسة. كل هذا تمت تعبئته في حماية دستورية قوية للحريات المدنية وسلامة النظام السياسي. ومن سمات تلك الحقبة، كان كل شيء تحت إشراف المحاكم الدستورية القيادية بشكل متزايد أو غيرها من المحاكم العليا. كانت هذه الميزات منتشرة بشكل كافٍ بحيث يمكن قبول قدر كبير من عدم الدقة في هذا النظام العالمي الجديد. ساعد الأمر على صعود كل من الديمقراطية والدستورية، ومثّل ذلك انتصار الليبرالية وتحقيق مشروع التنوير».
ويشير الكاتب إلى أن سقوط الإمبراطورية السوفييتية كان تتويجاً لإنجازات النظام الديمقراطي في فترة ما بعد الحرب. ومع ذلك، فإن الحقبة المظفرة لما أسماه صموئيل هنتنغتون بالموجة الثالثة من الديمقراطية لم تستمر كثيراً في الألفية الجديدة مع ظهور استجابات عديدة ضد جماعات إرهابية. بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان عدد من الديمقراطيات حديثة العهد يتراجع إلى الأشكال العرفية للحكم الاستبدادي. لكن الصدمات الأكبر لم تأت من الأطراف بل من داخل النظام الديمقراطي القائم. لم تكن هذه الصدمات نتاجاً لصراع عسكري أو محاولات للإطاحة بالعنف، لكنها كانت مدفوعة إلى حد كبير بانعدام الأمن الاقتصادي والتركيبة السكانية المتغيرة لعالم يتجه نحو العولمة. كشفت الانتفاضات الشعبوية من اليمين واليسار عن تدهور التوافق العام للسياسة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في العالم الديمقراطي. من فرنسا إلى الهند، فقدت الأحزاب التاريخية مصداقيتها ودُفعت فعلياً خارج النظام السياسي. سادت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي معارضة شديدة من داخل كل من حزب المحافظين وحزب العمال.
تحديات سياسية جديدة
أوضح التحدي السياسي الجديد أن الديمقراطية لم تكن تتويجاً لحقبة ما بعد الحرب، ولكن كمسعى فاشل لنخبة تركت الطبقات الكادحة في مأزق. ويقول في إضافة لما سبق: «تعلم القادة الشعبويين، من اليسار واليمين، تجاوز الأشكال المؤسسية للسياسة لصالح الاتصالات المباشرة والمتكررة مع السكان، كما في ظهور هوغو تشافيز المتكرر على التلفزيون لعدة ساعات وافتتان دونالد ترامب بالتغريدات على تويتر. حتى قبل الهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي في الساعات الأخيرة من رئاسة ترامب، أوضحت الشعبوية الصاعدة رفضها لأسس الحكم الديمقراطي الحديث. بالتالي يكمن سر الاستقرار الديمقراطي في اللعب المتكرر، الأمر الذي يتطلب أفقاً زمنياً ممتداً. يسمح الوقت للخاسرين اليوم باحتمال إعادة التنظيم والظهور كفائزين غداً. قد تسفر الانتخابات عن نتيجة سيئة، وقد تؤدي في فترة إلى تشريع ضعيف، لكن ما يبقى حاسماً هو القدرة على التعافي. توطدت التجربة الأمريكية في الحكم الذاتي الديمقراطي في انتخابات عام 1800، والتي مثلت المرة الأولى التي يتم فيها عزل رئيس دولة من خلال الوسائل الانتخابية. في مراجعته الشاملة للديمقراطية الأمريكية، اعتقد دي توكفيل أن مفتاح الحكم غير الأرستقراطي هو القدرة على ارتكاب ما أسماه أخطاء يمكن استرجاعها. في ذلك الوقت، افترض أن التحدي أمام الحكم الديمقراطي الناجح سيكون التوسط العسكري كما هي الحال مع حرب 1812 الكارثية، لأن ذلك من شأنه تقصير الأفق الزمني اللازم للجمهورية. والقوة المقيدة اليوم ليست خارجية بل داخلية، على الرغم من التهديدات المستمرة للإرهاب وإعادة تنظيم العلاقات الدولية في ضوء الهيمنة الصينية. تكمن الدوافع الشعبوية في تقصير الإطار الزمني للعواقب السياسية ذات الصلة وتحويل كل شيء إلى خيار ثنائي، حياة سياسية تحددها القضايا الوجودية: نحن أو هم، النجاح أو الفشل، الشعب أو القلة، شعبنا أو الأجانب. فلا يمكن أن تكون هناك روح انتصار جزئية، أو خلاف شرعي. يمكن رؤية آثار الآفاق الزمنية المضغوطة في الاستعداد للتخلي عن القواعد المؤسسية طويلة الأمد التي تحمي الأقلية، مثل مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة، لصالح مكاسب سياسية فورية. ربما تكون الجهود المبذولة لتغيير قواعد الانتخابات أو السلطات التي تحتفظ بها الحكومات المنتخبة، كما هو موضح في السياق الأمريكي في ولاية كارولينا الشمالية أو ويسكونسن، أكثر مظاهر الاحتراق للتحدي الراهن للأفق الطويل الضروري للحكم الديمقراطي المستقر. تنتقل الديمقراطيات المستقرة من كونها تحدياً بين الأعداء إلى معركة لا هوادة فيها ضد الأعداء، على حد تعبير مايكل إغناتيف».
ويرى المؤلف أن السياسة الديمقراطية تفقد اليوم تحت تأثير الشعبوية الإحساس بالمشروع الجماعي بين جميع الفاعلين السياسيين. لا يقتصر الأمر على عدم الالتزام بتكرار اللعب فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى استبعاد القيود المفروضة على ما يمكن أن يتوقعه الفائزون. ويقول: «تُحكم الديمقراطيات الحديثة من خلال ترتيبات مؤسسية تمتد في سلسلة كاملة من فصل السلطات على المستوى الرسمي للدولة إلى الجمعيات الخاصة التي توفر الاستقرار والاستمرارية بمرور الوقت، وعلى الأخص الأحزاب السياسية التي تدعم نظاماً سياسياً مستقراً.
إن الشعبوية، كما أشار الفيلسوف أشعيا برلين قبل نصف قرن، ليست مهتمة بشكل أساسي بالمؤسسات السياسية، على الرغم من استعدادها لاستخدام الدولة كأداة لتحقيق غاياتها. لكن مؤسسات الدولة ليست هدفها والدولة ليست رابطة إنسانية مثالية لها. إنها تؤمن بالمجتمع بدلاً من الدولة… كل هذه الحركات تؤمن بنوع من التجديد الأخلاقي…». يتبع هذا الكتاب إلى حد كبير تشخيص برلين للشعبوية على أنها ترتكز على التعبئة السياسية بطريقة تتجاهل فيها مؤسسات الحكم.
إشكالية الفشل المؤسسي
اللافت في العصر الحالي هو أن الديمقراطيات الناضجة تواجه أشكال الفشل المؤسسي ذاتها على غرار الديمقراطيات الوليدة الضعيفة، حتى لو بدت الساعة وكأنها تسير في الاتجاه المعاكس. في جميع الديمقراطيات تقريباً، يصاحب الهجوم الشعبوي قوة في قيادة سلطة تنفيذية ضخمة. هناك استثناءات غريبة كما هي الحال في بولندا، حيث تُمارس السلطة بشكل فعال من خارج هيكل القيادة الرسمي للدولة، لكن الحكم الشعبوي ينتج عنه حكم الرجل القوي، بغض النظر عن الوضع القومي. ونتيجة لذلك، فإن أي تفسير لضعف السياسة الديمقراطية في مواجهة الشعبوية لا يمكن أن يرتكز على الظروف السياقية فقط. من المؤكد أن التعافي الضعيف من الأزمة المالية لعام 2008 صب الزيت على النار، لكن الصعود الظاهر بين عشية وضحاها للتحديات الشعبوية وإخفاقات المؤسسات السياسية التقليدية في فترة ما بعد الحرب لتوجيه الانتفاضة السياسية تتطلب تفسيراً أكبر.
من الممكن أيضاً إيجاد دوافع شعبوية معينة في البيئات الوطنية المحلية. لا شك في أن الإصلاحات في القوانين الأمريكية التي تحكم الأحزاب السياسية وتمويل الحملات الانتخابية قد أضعفت السياسات المؤسسية. وفي السياق ذاته، ساهمت حكومة ضعيفة في بريطانيا في ظل تحالف غير مستقر في اضطرابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وكان لدى إيطاليا برلسكوني، وإسبانيا تعاني أزمة الإسكان، وفرنسا كانت تعاني ارتفاع معدلات البطالة بشكل لا يمكن تحمله، وما إلى ذلك. لكن استمرار هذا النمط عبر الديمقراطيات المستقرة يدفع إلى تحقيق إشكاليات تتجاوز المستوى الوطني. على عكس الموجة الشعبوية التي اجتاحت أمريكا اللاتينية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن الشعبوية في الولايات المتحدة وأوروبا ليست طموحة من حيث السياسة الوطنية ولكنها غاضبة من جهة الإحساس بالخسارة والخيانة. ويستشهد المؤلف بما يقوله كاس مود: «يصبح قلب الشعبوية نشطاً فقط عندما تكون هناك ظروف معينة: وعلى الأخص، مزيج من الاستياء السياسي المستمر، والتحدي الخطير (المتصور) ل «أسلوب حياتنا»، ووجود زعيم شعبوي جذاب. ومع ذلك، فإن ما يميز القلب الشعبوي عن الجماعات الأخرى المعرضة للاحتجاج هو رد فعلهم. يجب عموماً أن يتم حشدهم من جانب ممثل شعبوي، بدلاً من أخذ زمام المبادرة بأنفسهم».
يجد الكاتب أنه وراء الأحداث اللحظية في أي بلد بعينه يقف مفهوم الحكم الديمقراطي بمثابة غطاء لفشل النخب في معالجة أمن وازدهار مواطني المجتمعات الديمقراطية المتقدمة. ويقول: «إن التحدي الذي يواجه الديمقراطية ليس قمع الدولة في المقام الأول ولكن الفشل المؤسسي. لغة حقوق الإنسان تجسد التوتر بشكل سيئ عندما يكون الاختيار الانتخابي للجمهور الناخب متسرعاً وديماغوجياً وغير مقيّد بلغة أو معايير الحكم، وفي كثير من الأحيان يلتزم علناً بفك الترتيبات المؤسسية ذاتها التي سمحت بالنجاح الانتخابي الشعبوي في المقام الأول. كانت الأنظمة الاستبدادية في القرن العشرين تلجأ بشكل فوري إلى وسائل الاضطهاد الخارجة عن القانون لتعزيز القوة الغاشمة. على النقيض من ذلك، يعتمد القادة الشعبويون الحاليون بشكل كبير على تفويضهم الانتخابي ويختارون وسائل الآليات غير القانونية لإسقاط خصومهم. يصبح السؤال بعد ذلك ما إذا كان ثمة أشكال من التدخل القانوني قد تحافظ على المساءلة الديمقراطية من خلال إحباط الادعاء الشعبوي بالديمومة».