د. محمد عباس ناجي *
شهدت منطقة الشرق الأوسط، خلال العقود الماضية، حالة من عدم الاستقرار على المستوى الإقليمي، مثّلت أحد انعكاسات تصاعد حدة الصراع بين القوى الإقليمية الرئيسية، وهي حالة استفادت منها أطراف دولية عدة سارعت إلى تعزيز حضورها في الملفات المأزومة، فضلاً عن بعض الفاعلين من غير الدول، على غرار الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية.
يبدو منطقياً أنه عندما يتغير النمط الرئيسي في التفاعلات التي تجري بين القوى الإقليمية الرئيسية، تبدأ هذه الحالة بالتراجع، وهو ما تتزايد احتمالاته مع المصالحات التي أجريت في الآونة الأخيرة، بداية باتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران الذي تم برعاية صينية في 10 مارس/ آذار الفائت، وانتهاء باحتمالات تحسن العلاقات بين السعودية وسوريا، بعد إجراء مباحثات لاستئناف العلاقات القنصلية، وربما دعوة سوريا إلى اجتماعات القمة العربية التي سوف تعقد في الرياض في 19 مايو/ أيار المقبل. ويبدو أن الرياض وطهران عازمتان على إنجاز المصالحة في أقرب وقت، وهو ما انعكس في اجتماع وزيري خارجية البلدين في بكين، يوم أمس الخميس.
متغيرات داعمة
هذه العلاقة الشرطية بين المصالحات والأمن الإقليمي تستند إلى متغيرات داعمة عدة: أولها، أن هذه المصالحات يمكن أن تُهيّئ المجال أمام الوصول إلى تسويات سياسية لبعض الأزمات الإقليمية. وهنا، تبدو الحالة اليمنية هي الاختبار الأساسي للمصالحة السعودية – الإيرانية، في ظل الأهمية التي يحظى بها الملف اليمني بالنسبة إلى كل من الرياض وطهران.
مؤشرات إيجابية
وقد بدا أن ثمة مؤشرات إيجابية عدة ظهرت في الأفق في أعقاب توقيع اتفاق بكين، على غرار إنجاز صفقة تبادل الأسرى بين الحكومة الشرعية والميليشيات الحوثية، في جنيف في 20 مارس/ آذار الفائت. ورغم أن هذه الخطوة تكتسب طابعاً تكتيكياً في المقام الأول، فإنها في النهاية قد تكون بداية الطريق نحو إبرام تسوية تتجاوز اتفاقات الهدنة التي وقعت في الفترة الماضية، وتمتد إلى القضايا الخلافية الرئيسية.
وهنا، فإن هذه التسوية المحتملة سوف تساهم في تعزيز الأمن الإقليمي، خاصة أنها سوف تدفع الميليشيات الحوثية إلى الالتزام بمطالب المجتمع الدولي، وقرارات مجلس الأمن، وهو ما يكتسب اهتماماً خاصاً ليس من جانب القوى الإقليمية فقط، وإنما أيضاً من قبل القوى الدولية، خاصة في ظل الموقع الاستراتيجي الذي تحظى به اليمن، لقربها من خطوط المواصلات العالمية، في باب المندب والبحر الأحمر. ومن دون شك، فإن ثمة تعويلاً على أن المصالحة مع إيران قد تدفعها إلى ممارسة ضغوط على الميليشيات الحوثية للتجاوب مع هذه المطالب والقرارات في ظل النفوذ الواضح الذي تمتلكه لدى الأخيرة.
وثانيها، أن هذا المسار ربما يؤسس إلى اتجاه جديد في التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية. إذ إن الوصول إلى اتفاق تسوية في اليمن معناه أن القوى الإقليمية الرئيسية تستطيع صياغة ترتيبات أمنية وسياسية تستوعب مصالحها وحساباتها في المقام الأول، من دون الاضطرار في النهاية إلى تسليم مفاتيح الحل لقوى من خارج المنطقة، على غرار ما يحدث في ملفات إقليمية أخرى، ثبت فيها أن تلك القوى تسعى إلى تحديد اتجاهات التطورات التي تشهدها بما يتوافق مع رؤاها، بصرف النظر عما إذا كان ذلك في مصلحة شركائها الإقليميين، من عدمه. ويبدو الموقف الأمريكي في المفاوضات النووية مع إيران مثالاً بارزاً على ذلك.
كما تبدو حالة سوريا ماثلة أيضاً في هذا السياق، إذ إن هذه المصالحات يمكن أن تساعد في تعزيز فرص الوصول إلى تسوية للأزمة السورية، على نحو يحافظ على وحدة الأراضي ومؤسسات الدولة السورية، وهي المعضلة الأساسية التي واجهت معظم دول الأزمات، إن لم يكن مجملها، بعد أن توزعت أراضيها بين وكلاء محليين، وميليشيات مسلحة، وقوى دولية وإقليمية، وانهارت فيها مؤسسات الدولة، أو تقلصت مساحة سلطاتها، بشكل أدى في النهاية إلى ظواهر سلبية خطرة، على غرار تأسيس حكومات موازية في الدولة الواحدة، وسيطرة الميليشيات المسلحة على مؤسساتها الأمنية والعسكرية، بشكل ينتج تهديدات لا تبدو هيّنة للأمن الإقليمي.
وثالثها، أن هذه المصالحات يمكن أن تساعد في تقليص الخيارات المتاحة أمام التنظيمات الإرهابية، التي سعت في الفترة الماضية إلى استغلال الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها بعض القوى الدولية، فضلاً عن تصاعد حدة الصراعات بين القوى الإقليمية، من أجل النفاذ والتمدد داخل دول الأزمات.
ويبدو ذلك واضحاً في حالة تنظيم «داعش»، الذي استغل هذه الأخطاء، فضلاً عن هذه الصراعات، أولاً من أجل إقامة دولته المزعومة على قسم يعتد به من أراضي العراق وسوريا، وبعد أن فشل في ذلك بدأ بتكوين خلايا نائمة في المناطق التي سبق أن سيطر عليها وخرج منها بفعل الضربات والهزائم العسكرية التي تعرض لها.
ورابعها، أن هذه المصالحات قد تدفع بعض أطرافها، وتحديداً إيران، إلى تغيير أنماط تفاعلاتها مع التطورات التي تشهدها العديد من دول الأزمات، بشكل قد يساعد في تحقيق الاستقرار في تلك الدول، على غرار العراق. وربما يمكن القول إن هذا الهدف تحديداً هو الذي دفع العراق إلى ممارسة جهود حثيثة في العامين الماضيين من أجل تقليص حدة التصعيد بين إيران والسعودية، عبر استضافة خمس جولات من المحادثات بين الطرفين بداية من إبريل/ نيسان 2021، كان لها دور في تهيئة المجال أمام الوصول إلى اتفاق بكين في النهاية.
وخامسها، أن مثل هذه المصالحات قد تكون مدخلاً لمعالجة قضايا مهمة تمس أمن ومصالح الدول العربية بامتياز، وفي مقدمتها القضية النووية الإيرانية، التي طالما دعت الدول العربية إلى ضرورة تسويتها بما يعود بالإيجاب على الأمن والاستقرار الإقليمي.
في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن هذه المصالحات قد تتحول إلى ما يشبه «كرة الثلج» التي سرعان ما يمكن أن تتطور إلى اتجاه إقليمي عام، يتضمن مصالحات بين قوى إقليمية أخرى، بشكل قد يساهم في الوصول إلى تسويات سياسية لبعض الأزمات الإقليمية، على نحو سوف يكون له دور مباشر في تعزيز الأمن الإقليمي بالمنطقة.
* خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية