لا تتوقف التحديات التي يواجهها الشعب الليبي منذ ما يسمى «الربيع العربي» عند انعدام الأمن، وانتشار الميلشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية والظلامية، ودخول القوات الأجنبية وحتى المجموعات الإجرامية وتجار البشر، بل بات المجهول هو العنوان الأبرز لأكثر من 200 مليار دولار هي أملاك الشعب الليبي التي تم تجميدها بقرار من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في مارس عام 2011 يشترط وجود حكومة واحدة تعبر عن كل الليبيين قبل أن يرفع قرار التجميد، وخلال أكثر من 12 عاماً فشلت كل الجهود الليبية في استعادة هذه الأموال التي يقول الليبيون أنها أكثر كثيراً من ال200 مليار دولار المعروفة في الوقت الحالي، وتقلل حالة «عدم اليقين» السياسي والاقتصادي التي تمر بها ليبيا من فرص استعادة تلك الأموال المجمدة خاصة في ظل وجود حكومتين الأولى في طرابلس والأخرى في بنغازي، وانقسام المصرف المركزي الليبي بين الشرق والغرب.
بينما تسعى حكومة طرابلس برئاسة عبد الحميد دبيبة إلى رفع التجميد عن تلك الأموال تقول جهات ليبية أخرى في البرلمان الشرعي الليبي الذي مقرة بنغازي أنها ترفض رفع التجميد في الوقت الحالي خوفاً من أن تذهب تلك الأموال إلى طرف دون آخر، ويستغلها هذا الطرف في الصراع والتشظي السياسي الداخلي. وكانت كل الأنظار في ليبيا تتجه إلى 24 ديسمبر عام 2021 لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكن بعد تعذّر إجراء تلك الانتخابات يراهن البعض على التقارب النسبي الآن بين الشرق والغرب خاصة في ظل ثبات وقف إطلاق النار بين الطرفين منذ 20 أكتوبر 2020، وحاجة الدول الأوروبية إلى استقرار ليبيا للحصول على النفط والغاز الليبي باعتباره أحد الأوراق الأوروبية المهمة للاستغناء عن الغاز الروسي، كما يراهن البعض على استفادة ليبيا من «الروح الجديدة» التي تسود المنطقة، والتي تقوم على سياسة «تبريد الصراعات» و»تهدئة التوترات»، فما قصة ال200 مليار دولار من الأموال الليبية المجمدة؟ وكيف تسعى بعض الدول والشركات الأجنبية للسيطرة على هذه الأموال؟ وما خيارات الشعب الليبي للحفاظ على هذه الأموال من السرقة؛ وهي أموال يمكن أن تحقق طفرة تنموية غير معهودة حال استعادة تلك الأموال؟
قصة التجميد
عندما اندلعت الأحداث والانتفاضة في شرق ليبيا ضد معمر القذافي في 17 فبراير 2011 قالت الدول الأوروبية وحلف الناتو الذين ساعدوا في المعارك ضد قوات القذافي أن أنصار القذافي يمكن أن يستولوا على الأموال الليبية في الخارج لتوظيفها ضد ثورة الشعب في الداخل؛ لهذا اجتمع مجلس الأمن مرتين من أجل تجميد الأموال الليبية في الخارج؛ في الجلسة الأولى أصدر القرار رقم 1970 الذي نص فيه على تجميد جميع الأموال، والأصول المالية، والموارد الاقتصادية الأخرى التي يملكها أو يتحكم فيها نظام القذافي، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ووضع في مقدمتها تجميد كل الأموال التابعة لمعمر القذافي، وابنته عائشة، وأبنائه سيف الإسلام، والمعتصم بالله، وهانيبال، وخميس، أو الذين يعملون باسمهم، أو بتوجيه منهم، أو الكيانات التي يملكونها أو يتحكمون فيها، مع ضرورة التزام كل الدول الأعضاء في مجلس الأمن بعدم إتاحة أي أموال، أو أصول مالية، أو موارد اقتصادية بواسطة رعاياها أو بواسطة أي كيانات أو أشخاص موجودين في أراضيها للكيانات أو الأشخاص الليبيين المفروض عليهم هذه العقوبات، إضافة إلى تجميد مجلس الأمن أصول 5 مؤسسات وكيانات مالية ليبية؛ وهي مصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الليبية للاستثمار، والمصرف الليبي الخارجي، ومحفظة الاستثمار الإفريقية الليبية، ومؤسسة النفط الليبية. وفي 17 مارس 2011 صدر القرار رقم 1973 ليؤكد ما جاء في قرار 1970.
خريطة الأموال
تؤكد كل التقارير الليبية أن الأرقام المعروفة عن الأموال الليبية المجمدة في الخارج والتي تتراوح بين 170 و200 مليار دولار هي أقل كثيراً من حجم الأموال الحقيقة في الخارج، ويعتمد هؤلاء على عدد من المؤشرات منها أن دخل الدولة الليبية من النفط والغاز على مدار عقود من حكم القذافي يقول أن الأموال في الخارج قد تصل إلى 400 بل 500 مليار دولار، كما أن بعض الدول ومنها دول كبرى وعظمى كانت ترتبط بعلاقات سياسية واقتصادية وثيقة بحكومة القذافي وكان بها أموال ومشروعات ليبية عملاقة لم تعلن عن أي أموال ليبية مجمدة لديها، وهناك دول أخرى قالت أن لديها أموالاً من عهد القذافي، لكنها لن تفصح عن حجمها إلا عندما يأتي لها طلب بهذا من مجلس الأمن بعد تشكيل حكومة واحدة وانتهاء كل مظاهر الخلافات السياسية في ليبيا، إضافة إلى الدول والجزر التي يرفض نظامها المالي الإفصاح عن أموال وأسرار عملائها، ناهيك عن صعوبة ملاحقة كل الأصول المالية، والسندات، ورؤوس الأموال المملوكة للدولة الليبية التي كانت تساهم في مشروعات كبرى ومتوسطة في جميع قارات العالم؛ ولهذا فإن حجم الأموال التي طلب مجلس الأمن من الحكومات الأجنبية تجميدها هي فقط الأموال السيادية التي تصل قيمتها إلى 150 مليار دولار، إضافة إلى 144 طناً من الذهب، أما باقي الأموال والأصول الأخرى حول العالم فلا يعرف عنها أحد أي شيء.
وتحتل الولايات المتحدة الصدارة في ترتيب الدول التي تحتفظ بالأموال الليبية المجمدة بنحو 34 مليار دولار تابعة لهيئة الاستثمار الليبية، وموزعة على مجموعة من المحافظ المالية، كل محفظة بها 500 مليون دولار، وتأتي بعدها بريطانيا التي جمّدت نحو 19.2 مليار دولار خاصة بالأفراد والكيانات الليبية، وتأتي إيطاليا في المرتبة الرابعة بنحو 8 مليارات دولار، وجمّدت ألمانيا أصولاً وسندات وأموالاً ليبية تقدر بنحو 8 مليارات دولار أيضاً، كما جمّدت فرنسا التي قادت جهود الناتو ضد القذافي نحو 11 مليار دولار كانت تابعة لمؤسسات ليبية في البنوك الفرنسية، و قال البنك المركزي النمساوي أنه جمّد ما يقارب 1.2 مليار يورو من الأموال الليبية التي كانت مودعة لدى مؤسسات نمساوية، كما كشفت كندا في مارس 2011 أنها جمّدت نحو مليار دولار أمريكي وفق وكالة رويترز، كما أن تقرير معلومات إدارة هيئة الاستثمار الليبي؛ وهي هيئة واحدة من الكيانات الليبية الخمسة الكبرى التي تم تجميد أصولها وأموالها، قال هذا التقرير أن الهيئة كان لديها محفظة استثمارية بلغت في نهاية عام 2010؛ أي قبل الانتفاضة نحو 64.19 مليار دولار، إضافة إلى أنه كان لديها ودائع خارجية بلغت قيمتها 20.2 مليار دولار، ونحو 17.32 مليار دولار من الودائع لدى البنك المركزي الليبي.
أشكال السيطرة
عندما اختلف الليبيون حول نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2014 وترتب على ذلك ظهور حكومتين الأولى في الشرق والثانية في الغرب بدأت محاولات الدول، والأشخاص، والشركات الأجنبية للسيطرة على الأموال الليبية المجمدة في الخارج، وأخذت هذه السلوكيات التي يصفها الكثير من الليبيين بأنها نوع من الاستهانة بالشعب الليبي وبقرارات مجلس الأمن مجموعةً من الطرق والوسائل أبرزها:
أولاً: التعويضات؛ إذ تطلب بعض الشركات الأجنبية التي كانت تعمل في ليبيا مليارات الدولارات كتعويض عن خسارة أعمالها في ليبيا التي كانت قبل 2011، وبعض هذه الشركات يقول أنه قام بالفعل بتنفيذ العقد المبرم مع حكومة القذافي دون الحصول على المقابل المالي لهذه العقود التي توقفت بعد اندلاع الانتفاضة في 17 فبراير 2011، وتستند هذه الشركات إلى قيام الحكومة الليبية السابقة بقيادة فايز السراح بتقديم نحو 7 مليارات دولار تعويضات لشركات إحدى الدول التي كانت حليفة له، وهو ما شكّل سابقة تحاول الشركات الأجنبية استغلالها لطلب ما تسميه تعويضات عن خسائرها في السوق الليبي، وبالفعل أقامت عدة شركات أوروبية خاصة تلك التي تعمل في مجال النفط والبنية التحتية دعاوى قضائية أمام المحاكم الأوروبية، ونجحت في الحصول على أحكام بتعويضات عن مشاريع كانت تنفذها في ليبيا قبل عام 2011، لكن بعد الطعن من جانب ليبيا جرى وقف تلك الأحكام.
ثانياً: عدم إضافة «الأرباح البنكية»؛ فكثير من الدول عندما تعلن عن ما لديها من أموال ليبية مجمدة تكون بذات الأرقام والقيمة التي كانت في عام 2011 دون إضافة الأرباح البنكية على هذه الأرصدة، وهذه مخالفة واضحة لقرار مجلس الأمن الذي طلب إضافة أرباح إيداع الأموال الليبية على أصول المبلغ، وبهذا ضاعت هذه الأرباح على الشعب الليبي.
ثالثاً: فتح ملفات قديمة، ومنها على سبيل المثال سعي البعض سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات لإعادة فتح ملف تعويضات ضحايا طائرة بان الأمريكية فوق قرية لوكيربي الاسكتلندية في 21 ديسمبر 1988، ورغم أن حكومة القذافي دفعت نحو 2.2 مليار دولار تسوية لهذه القضية إلا أن كثرة الأموال الليبية المجمدة في الخارج ما زالت تغري البعض لإعادة طلب تعويضات جديدة عن الحادث.
سيناريوهات رفع التجميد
في ظل الوضع السياسي الحالي لا يمكن لمجلس الأمن أن يرفع التجميد عن الأموال الليبية، لكن هناك وعد من مجلس الأمن في يوليو الماضي بأنه سوف يناقش هذا الأمر في حال وجود توافق ليبي على هذه القضية. وفي ظل عدم إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وفي ظل تباين وجهات النظر بين الشرق والغرب حول رفع أو بقاء تجميد الأموال الليبية في الخارج فإن هناك 3 سيناريوهات:
الأول: هو نجاح الوسيط الأممي الحالي عبد الله باتيلي في إقناع الفرقاء الليبيين بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية هذا العام، وإنهاء حالة الانقسام السياسي والعسكري والاقتصادي، وتوحيد البنك المركزي الليبي، ومن ثم تشكيل حكومة واحدة تعبر عن كل الليبيين، ووقتها يحق لهذه الحكومة الجديدة أن تتوجه لمجلس الأمن، وتطالب بوقف سريان القرار رقم 1973، واستعادة الأموال وأطنان الذهب الليبية من الخارج.
الثاني: استمرار حالة التجاذب والانقسام الحالية، ووقتها لن ينجح أي طرف في استعادة هذه الأموال، ويمكن أن تضيع هذه الأموال أو على الأقل تتراجع قيمتها في ظل ارتفاع معدلات التضخم عالمياً.
الثالث: «الإفراج الجزئي»، وذلك من خلال قيام مجلس الأمن بالإفراج الجزئي عن بعض الأموال لصالح مشروعات بعينها تشرف عليها الأمم المتحدة، وقد سبق لمجلس الأمن أن سمح بتنفيذ مثل هذا السيناريو في عام 2011 عندما عقدت الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا يوم 25 أغسطس اتفاقاً يسمح بالإفراج عن 1.5 مليار دولار من الأموال الليبية المجمدة لسداد قيمة المساعدات الإنسانية التي تقدمها وكالات الأمم المتحدة وللاستخدامات المدنية للطاقة والصحة والتعليم والغذاء، كما سمح مجلس الأمن لبريطانيا في 30 أغسطس 2011 بالإفراج عن 1.55 مليار دولار من الأموال الليبية لذات الأهداف الإنسانية، وأفرجت إيطاليا أيضاً عن 350 مليون يورو من الأموال الليبية المجمدة في نفس العام.
الثابت من كل ذلك أن الجميع خاسرون من الخلافات الداخلية، وأن ليبيا تسع الجميع، وأن مقدرات ليبيا في الداخل والخارج تكفي لرخاء وسعادة شعبها بكل مكوناتهم وتوجّهاتهم السياسية.
الأصول المجمدة
الأموال المجمدة تابعة لخمس مؤسسات مالية ليبية وهي مصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الليبية للاستثمار، والمصرف الليبي الخارجي، ومحفظة الاستثمار الإفريقية الليبية، ومؤسسة النفط الليبية.