احتفل وزير الخارجية الأمريكي المخضرم ومستشار الرئاسة السابق، هنري كيسنجر، بعيد ميلاده المئة أمس السبت، ليتجاوز عمره العديد من زملائه السياسيين الذين قادوا الولايات المتحدة خلال أحد أكثر الفترات اضطراباً ومنها فترة رئاسة ريتشارد نيكسون وحرب فيتنام.

وفي مئويته، ما زال كيسنجر، يلقى آذاناً صاغية من كبار قادة العالم ويقدم نصائحه بمهارة في القضايا الجيوسياسية، وما زال يثير إعجاباً بقدر ما يسبب انقساماً.

يعتبر البعض الرجل الذي احتفل بمئويته السبت، صاحب رؤية، بينما يرى آخرون أنه «مجرم حرب»، لكن «الحكيم» بقامته المنحنية ونظارته الشهيرة بإطارها الكبير الداكن، ما زال نشطاً.

وقد شارك وزير الخارجية الأسبق الثلاثاء في حفل تكريم بمناسبة بلوغه من العمر مئة عام في نادي نيويورك الاقتصادي النخبوي جداً حيث أطفأ شموعاً على كعكة من الشوكولاتة.

وبالتأكيد، لم يعد يظهر علناً إلا نادراً وغالباً عن طريق الفيديو كما حدث في دافوس في يناير/كانون الثاني الماضي، ولكن بالنسبة للرجل الذي ترك بصمته على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين، تبقى هذه الاستمرارية استثنائية.

ويحتفظ مكتبه في نيويورك وشركته الاستشارية «كيسنجر أسوشيتس» بمكانة كبيرة نسبياً لدى النخبة في واشنطن والخارج، بما في ذلك بين الديمقراطيين مثل وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون التي قالت في أحد الأيام إنها «تعتمد على نصائح صديقها».

«السياسة الواقعية»

كيسنجر الذي كان لاعباً رئيسياً في الدبلوماسية العالمية خلال الحرب الباردة، وحائز نوبل للسلام، أطلق التقارب مع موسكو وبكين في سبعينات القرن الماضي، معتمداً على رؤية براغماتية للعالم تعد نوعاً من «السياسة الواقعية» على الطريقة الأمريكية.

وفي مؤشر إلى أن رؤيته للعالم لم تتغير، أكد أمام مضيفيه الثلاثاء أنه من واجب الولايات المتحدة الدفاع عن «مصالحها الحيوية». وقال «يجب أن نكون دائماً أقوى من أجل مقاومة أي ضغط».

وحتى بشأن الحرب في أوكرانيا عندما دعا إلى وقف لإطلاق النار، قال «وصلنا إلى نقطة حققنا فيها هدفنا الاستراتيجي»، معتبراً أن «المحاولة العسكرية الروسية لابتلاع أوكرانيا فشلت».

لكن صورة الرجل ذي الصوت الأجش واللهجة الموروثة من أصوله الألمانية، ما زالت مرتبطة بصفحات مظلمة في تاريخ الولايات المتحدة مثل دعم انقلاب 1973 في تشيلي أو غزو غرينادا في 1975، وبالتأكيد فيتنام.

وقال المحامي المتخصص بحقوق الإنسان ريد كالمان برودي «بالنسبة لي ليس هناك أي شك في أن سياسته تسببت بمقتل مئات الآلاف وتدمير الديمقراطية في عدد من البلدان»، وأضاف «أنا مندهش لأنه أفلت من العقاب».

عمليات قصف

في الواقع، لم يواجه الرجل أي ملاحقات قضائية ورفضت دعوى كانت قد رفعت ضده في 2004. وفي تحقيق نشر الأربعاء، يؤكد موقع «ذي انترسبت» للصحافة الاستقصائية استناداً إلى وثائق من أرشيف وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) وشهادات ناجين أن حملة القصف الأمريكية في كمبوديا بين 1969 و1973 التي كان كيسنجر مهندسها، تم التقليل من حجمها إذ إنها أودت بحياة عدد من المدنيين أكبر بكثير مما تم الاعتراف به.

ويشير منتصر مأمون المؤرخ في جامعة دكا إلى أن كيسنجر «دعم بنشاط الإبادة الجماعية في بنغلاديش» في 1971.

وقال «لا أرى أي سبب للإشادة بكيسنجر» مؤكداً أن كثراً في دول عدة يشاطرونه وجهة نظره هذه بما فيها فيتنام.

وترى المؤرخة كارولين أيزنبرغ من جامعة هوفسترا في الولايات المتحدة أن «المفارقة هي أننا نتذكر أنه صنع السلام لكننا ننسى كل ما فعله لإطالة أمد الحرب ليس فقط في فيتنام بل وفي كمبوديا ولاوس أيضاً».

انفراج

ولد اليهودي الألماني الشاب هاينز ألفريد كيسنجر في 27 مايو/ أيار 1923 في فورث في بافاريا، ولجأ في سن الخامسة عشرة إلى الولايات المتحدة مع عائلته قبل أن يصبح مواطناً أمريكياً في سن العشرين.

والتحق نجل المدرس بالاستخبارات العسكرية والجيش الأمريكي قبل أن يبدأ دراسته في جامعة هارفارد حيث كان طالباً لامعاً وعمل في التدريس أيضاً.

وفرض كيسنجر نفسه وجهاً للدبلوماسية العالمية عندما دعاه الجمهوري ريتشارد نيكسون إلى البيت الأبيض في 1969 ليتولى منصب مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية. وقد شغل المنصبين معاً من 1973 إلى 1975.

وقد بقي سيد الدبلوماسية الأمريكية في عهد جيرالد فورد حتى 1977.

في تلك الفترة، أطلق الانفراج مع الاتحاد السوفييتي وتحسن العلاقات مع الصين في عهد ماو تسي تونج، خلال رحلات سرية لتنظيم زيارة نيكسون التاريخية إلى بكين في 1972.

كما أجرى وبسرية تامة أيضا وبالتزامن مع قصف هانوي، مفاوضات مع لي دوك ثو لإنهاء حرب فيتنام. ولتوقيعه وقف إطلاق النار منح جائزة نوبل للسلام مع الفيتناميين الشماليين في 1973، في واحدة من أكثر الجوائز إثارة للجدل في تاريخ نوبل.

الموقف من الحرب الأوكرانية

في العام الماضي، أثار كيسنجر رد فعل غاضباً من أوكرانيا، بعد أن قال في منتدى إن أوكرانيا يجب أن تتنازل عن الأراضي لروسيا لإنهاء الصراع، وأنه لا ينبغي للغرب أن يسعى لتحقيق نصر يحرج روسيا بسبب هذا، إذ يؤدي هذا فقط إلى المزيد من زعزعة استقرار العالم.

واعتبر أن أوكرانيا أصبحت عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي بالأمر الواقع.

وقال كيسنجر إن حقيقة أن الولايات المتحدة أرادت أن تصبح أوكرانيا عضواً في منظمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» كانت خطأً فادحاً وأدت إلى الصراع الحالي.

ونقلت صحيفة «وول ستريت» جورنال الجمعة، عن «كيسنجر»، قوله: كان لروسيا نفوذ كبير في المنطقة لقرون عديدة، لكن موقفها تجاه أوروبا له تناقض في الأيديولوجيا عندما تريد من ناحية تطوير هذه العلاقة لخدمة مصالح الاتحاد الأوروبي والتنمية، ومن ناحية أخرى، تظل حذرة من التهديدات المحتملة من الغرب.

وقال وزير الخارجية الأمريكية الأسبق إن هذا التناقض ساهم أيضاً في الصراع في أوكرانيا.

وقال:«أعتقد أن اقتراح انضمام أوكرانيا إلى الناتو كان خطأ فادحاً وأدى إلى هذه الحرب».

وأضاف كيسنجر أن الإدارة الحالية للرئيس الأمريكي جو بايدن فعلت «الكثير من الأشياء بشكل صحيح»، وقال: «أنا أدعمهم في أوكرانيا».

(وكالات)


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version