د. أيمن سمير
وصفه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بأنه «الأكثر شهرة في العالم»؛ هو نموذج للتواضع والجدية الكاملة التي نقلته من عامل حدادة وماسح للأحذية إلى قصر «بلاناتو الرئاسي»، يرى بلاده تجلس في «مقاعد الكبار»، وينظر إلى شعبه من زاوية أنه يستحق أن يكون في «مقدمة الصفوف»، أصبح نموذجاً للسياسي الذي يلتزم بوعوده، فحملته الجماهير على الأعناق، ربما هو السياسي الوحيد في آخر 50 عاماً الذي يحكم ولايتين، وفي نهايتهما تكون شعبيته فوق 80%، كان خجولاً في طفولته، لكنه تجاوز كل ذلك، ليصبح «معشوق القلوب» في العالم كله.
بات حلم للفقراء في العالم، وحاز مكانة خاصة في عقول وقلوب الحالمين بالانتقال من «مربع العوز والفقر» إلى «بيوت الازدهار والسعادة»، رؤيته لبلاده وحتى للإنسان أينما كان تقول إن الأرض بها خيرات كثيرة، تكفي كل الشعوب وتزيد، وأن الفقر «منتج سياسي» يمكن للمخلصين والشرفاء أن يتجاوزوه مع شعوبهم بإعادة النظر في إدارة الموارد، وكيفية توظيفها وترتيبها
إنه الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دي سيلفا الذي أصر على العودة إلى كرسي الحكم في ولاية ثالثة بدأت في يناير/ كانون الثاني الماضي على الرغم من أنه في السابعة والسبعين من عمره، وكان في السجن يقضي عقوبة، لاتهامات بالفساد أثبتت المحكمة أنها غير صحيحة، الإصرار وعدم الاستسلام هما «منهج حياة» للرئيس البرازيلي الذي حكم ولايتين من قبل من 2002 وحتى 2010، وحاول قبل 2002 أن يصل إلى كرسي الحكم ولم ينجح، لكنه أيضاً لم يستسلم، وظل «يجري وراء حلمه» حتى تحقق 3 مرات وقد يفوز للمرة الرابعة،
يرى الآخرون بلاده باعتبارها دولة ذات اقتصاد ناشئ، لكنه يرى البرازيل دولةً عملاقة ليس لأن مساحتها 8.5 مليون كلم، وتجاور جميع دول أمريكا اللاتينية ماعدا تشيلي والإكوادور، ويتجاوز عدد سكانها 215 مليون نسمة؛ بل لأنه يرى في الشخصية البرازيلية «روح القيادة»، فالرئيس دي سلفا يرى في البرازيل دولة عملاقة ومرشحة بقوة لتكون «دولة عظمى»، فهي إضافة إلى كونها تعد عضواً في مجموعة دول العشرين والبريكس والميركوسور ومن كبار منتجي الحبوب والغذاء في العالم، تصنفها المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على أساس أنها «دولة صناعية حديثة»
دي سلفا المعروف عنه التقشف يرنو إليه ملايين الفقراء في أمريكا اللاتينية؛ لأنه نجح في الولايتين الأولى والثانية في نقل نحو 50 مليون فقير من «دائرة الفقر» إلى «حزام الطبقات الوسطى والشرائح الاجتماعية الأعلى»، فعلى الرغم من أن الرئيس دي سلفا ينتمي للمعسكر الاشتراكي فإنه من الممكن وصفة «بالاجتماعي الاشتراكي» على غرار الأحزاب الاجتماعية الاشتراكية في ألمانيا وفرنسا والدول الاسكندنافية، فهو دائماً ينحاز لمصلحة تقديم خدمات اجتماعية للمواطن البرازيلي، لكنه في نفس الوقت لا يهمل قيم السوق والعمل والإنتاج، ونجح من خلال هذه الرؤية في خلق شراكات اقتصادية مع كل القوى والكتل الاقتصادية ذات التوجهات الفكرية والأيدلوجية المختلفة، فزيارته الأخيرة للإمارات ولقائه مع صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، أكدت من جديد أن البرازيل كانت وسوف تظل صديقة للدول العربية والخليجية.
شخصيته المحبوبة، واعتداله السياسي، ووسطيته المعهودة، جعلته يحظى «بالقبول» من الجميع، فهو بصدق رجل «المبادرات الناجحة» في الداخل والخارج، هذا القبول ساعده في طرح أفكاه بقوة، ويتعامل معها بإيجابية حتى الذين يرفضونها، فالرئيس دي سلفا يعلم مدى التأثير السلبي في الاقتصاد والحياة الاجتماعية لملايين البشر حول العالم من الحرب الروسية الأوكرانية؛ لذلك تقدم بمبادرة لوقف الحرب، قامت على رؤية واضحة تحمل «طرفي الحرب» مسؤولية عدم التوصل لاتفاق سلام حتى الآن، كما أن شجاعته ورصيده السياسي عند الجميع في الشرق والغرب، دفعه للقول إن إرسال الأسلحة لطرفي الحرب، يعزز خيار الابتعاد عن طاولة المفاوضات، ويجعل لغة البندقية والرصاص هي اللغة الحصرية لهذا الصراع، وعلى الرغم من أنه أثار حفيظة الغرب عندما اقترح تنازل أوكرانيا عن شبه جزيرة القرم لروسيا فإنه ما يزال يحظى بالقبول والاحترام في الغرب، وخير دليل على ذلك أنه كان في البيت الأبيض مع الرئيس جو بايدن في فبراير/ شباط الماضي
لا يعرف إلا لغة الإنجازات، وعلى الرغم من أنه رجل عملي من الطراز الأول فإن خطاباته وكلماته تلهب حماس الجميع، ليس فقط في أمريكا الجنوبية واللاتينية؛ بل في العالم أجمع، فأينما يحل ينتظر الجميع ما سيقوله، لأن إيمانه بالديمقراطية راسخ رسوخ جبال الأمازون الشهيرة في بلاده، ولهذا واجه التحدي الكبير عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة دون أن يتراجع أو يخشى أي شيء عندما نزل أنصار غريمه السياسي «جايير بولسونارو» إلى الشارع، وحاولوا احتلال الكونغرس والقصر الرئاسي والمحكمة، لكن حنكته السياسية وبعد نظره ساعداه في تجاوز هذا التحدي من دون أي خسائر؛ بل أشاد الجميع بحسن تعامله مع هذه الأزمة حتى من أنصار بولسونارو أنفسهم
يؤمن دي سلفا أن بلاده يجب أن تتوسط الدول العظمى ليس فقط لأنها الأكبر في إنتاج البن الذي يستيقظ على رائحته مليارات البشر؛ بل لأن البرازيل لديها نموذج متكامل في التنمية والسياسة والعلاقات مع الآخرين، فالرئيس دي سلفا على يقين أن البرازيل تستحق مقعداً دائماً في مجلس الأمن الدولي، لأنه يراها «قوة سلام وازدهار» لأمريكا الجنوبية واللاتينية، و«رافعة اقتصادية» لسد الثغرات في سلاسل الإمداد العالمية، لكنها أيضاً البلاد التي تستطيع أن تؤثر في معادلات الكبار، ولهذا لم يتوان الرئيس دي سلفا أن يقول رأيه بصراحة عن رغبته في رؤية عالم «متعدد الأقطاب»، وعدم الاعتماد أكثر من ذلك على «الدولار»، وفي سبيل ذلك نجح في الاتفاق مع جارته الأرجنتين على البدء في التحضير «لعملة موحدة» يطلق عليها «سور» أي الجنوب، كما أن دي سلفا منفتح على وجود عمله واحدة لدول البريكس الخمس التي تضم بلاده مع الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا.