كتب -المحرر السياسي:
تشهد القارة الأوروبية تحولات متسارعة نتيجة الحرب في أوكرانيا، ربما تكون الضرورات الأمنية أبرز بواعثها، لكنها في الوقت ذاته تتناقض كلياً مع الصورة الوردية التي ترسخت في أذهان العالم حول أوروبا كموطن للحريات، وحماية حقوق الإنسان.
بينما تتعمق الخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي حول عدد من القضايا، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا وقضية اللاجئين، ويواجه زعماء الكتل السياسية وصناع القرار تحديات مستقبلية تغذيها شعارات مثل «الاستقلال الاستراتيجي»، و«الريادة الخضراء»، وفي تشريعات انتقال البيانات الرقمية،وغيرها، تأتي عاصفة تنظيم حرية وسائل الإعلام لتنسف الكثير من منطلقات العمل الجماعي والتعاون والتنسيق بين دول الاتحاد في هذه المرحلة الحرجة.
فقد توصل المجلس الأوروبي إلى اتفاق في 21 يونيو/ حزيران 2023 بشأن قانون حرية الإعلام الأوروبي الذي تشتد الحاجة إليه، بناء على تشريع اقترحته المفوضية الأوروبية في 16 سبتمبر/ أيلول 2022، يهدف إلى تقديم ضمانات ضد التدخل السياسي والتركيز الإعلامي وحماية الصحفيين ومصادرهم من المراقبة. ومنذ ذلك الحين، دعا كل من «الاتحاد الدولي للصحفيين»، و«الاتحاد الأوروبي للصحفيين»، إلى موقف قوي وفعال للرد على التهديدات العديدة التي تتعرض لها حرية الإعلام في الاتحاد الأوروبي.
ويترك المقترح الأوروبي الباب مفتوحاً للتجسس على الصحفيين باسم «الأمن القومي»، الأمر الذي تدينه التنظيمات المهنية ومؤسسات وشركات قطاع الإعلام بشدة.
وقد أكدت وزيرة الثقافة السويدية، باريسا ليليستراند، التي تتولى بلادها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، أن النص يهدف إلى حماية تعددية وسائل الإعلام واستقلاليتها في مواجهة ما أسمته«التهديدات المتزايدة التي يتعرض لها الاتحاد داخلياً وخارجياً». وأفادت مصادر دبلوماسية بأن كلاً من بولندا والمجر صوتتا ضد المقترح في اجتماع سفراء الدول السبع والعشرين.
تعديل فرنسي
ويتعلق النص بشكل خاص باحترام الحكومات سرية المصادر الصحفية، وحظر نشر برامج تجسس في الأجهزة التي يستخدمها الصحفيون. وهي أعمال تجسس طالت مؤخراً العديد من الدول الأوروبية، منها المجر وبولندا واليونان، لكن بالمقارنة مع الاقتراح الأصلي الذي قدمته المفوضية الأوروبية في سبتمبر/ أيلول، فإن التسوية التي تم التوصل إليها، توسع احتمالات الاستثناء وتشدد على مسؤولية الدول الأعضاء في حماية الأمن القومي.
وجاء في وثيقة طلب التعديل الفرنسية: «من الضروري تحقيق توازن عادل بين الحاجة إلى حماية سرية مصادر الصحفيين وضرورة حماية المواطنين والدولة من التهديدات الخطرة، أياً كان الجناة».
وسعى الاقتراح الأصلي إلى ضمان منع الحكومات من احتجاز الصحفيين، أو معاقبتهم، أو اعتراضهم، أو إخضاعهم للمراقبة أو التفتيش والمصادرة، من أجل الكشف عن مصادرهم، ما لم يتوفر مبرر قانوني يخدم المصلحة العامة.
كما تم حذف قائمة «الجرائم الخطرة» التي وضعتها المفوضية الأوروبية من النص الأصلي. وبدلاً من ذلك، يمكن نشر برامج التجسس للتحقيق في الجرائم المشار إليها في قرار المجلس الإطاري لعام 2002 لمذكرة التوقيف الأوروبية، ما يوسع عدد المخالفات التي تسمح بمثل هذه المراقبة من 10 إلى 32. وصار من الممكن استخدامها للتحقيق في الجرائم التي يُعاقب عليها بالسجن خمس سنوات على الأقل.
ودانت وسائل الإعلام وجماعات المجتمع المدني مسودة القانون بدعوى أنه يسمح لوكالات الأمن القومي بالتجسس على الصحفيين ووصفته بأنه خطر، بينما وصفه عضو في البرلمان الأوروبي بأنه «غير مفهوم».
وقالت النائبة الهولندية، صوفي إن تي فيلد، التي أشرفت على تحقيق البرلمان الأوروبي في استخدام برنامج التجسس «بيغاسوس»، على الصحفيين والشخصيات العامة، إن الادعاء بأن الإذن بالتجسس على الصحافة كان ضرورياً لمصالح الأمن القومي كان «كذبة».
ضربة لحرية الإعلام
واتهم الاتحاد الأوروبي للصحفيين، الذي يمثل أكثر من 300 ألف من العاملين في القطاعات الصحفية منتشرين في 45 دولة، بما في ذلك بريطانيا، قادة الاتحاد الأوروبي بالتعامل مع مبادئ حرية الإعلام باستهتار خطر.
وقال الاتحاد إن هذه الخطوة كانت بمثابة «ضربة لحرية الإعلام» من شأنها أن «تعرّض الصحفيين لخطر أكبر».
وحذر من أن إعطاء الحكومات سلطة وضع برامج تجسس على هواتف الصحفيين بذريعة حماية «الأمن القومي» سيكون له «تأثير مخيف في الصحافة الاستقصائية»، ومصادر الأخبار الأخرى.
وبمقتضى القانون الجديد ستكون حكومات الدول الأعضاء قادرة على اختراق هواتف الصحفيين إذا اشتبهت في أن مصادرهم يمكن أن تتحدث إلى أطراف ومصادر متورطة في أي شيء تعتبره الدولة تهديداً.
ويعرّض القانون في وضعه الحالي الصحفيين البريطانيين العاملين في دول الاتحاد الأوروبي أيضاً لخطر مراقبة هواتفهم وأجهزة الكمبيوتر التي يستخدمونها.
وأكد محققو المخابرات الفرنسية، العام الماضي، أنه تم العثور على برامج تجسس على هواتف ثلاثة صحفيين، من بينهم موظف كبير في محطة الأخبار التلفزيونية «فرانس 24».
وقال الاتحاد الأوروبي للصحفيين، إن القانون يتجاهل الأحكام القضائية المهمة التي صدرت عن محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي حتى الآن، والتي توضح أن هدف حماية الأمن القومي وحده لا يمكن أن يعطل قانون الاتحاد الأوروبي، ولا يعفي الدول الأعضاء من التزاماتها بالامتثال لقواعد القانون.
ويأمل الاتحاد الدولي للصحفيين، والاتحاد الأوروبي للصحفيين في أن يكون البرلمان الأوروبي في وضع يسمح له بالتأثير خلال المفاوضات الثلاثية، وإنقاذ ما تبقى من ثقة الصحفيين بمؤسسات الاتحاد بقانون حرية وسائل الإعلام الأوروبي.
وقالت جولي ماجيرجاك، رئيسة مكتب بروكسل لمنظمة مراسلون بلا حدود: «الأمن القومي هو استثناء كلاسيكي. إنه يفتح الباب أمام جميع أنواع الانتهاكات».