أصبحت السياسة الدولية، تعج بنماذج عن العنف الحاصل في الماضي الذي يعيد تأكيد نفسه راهناً، لكن كيف يجب علينا فهم آثار الصدمة على المدى الطويل؟ لماذا تظل بعض الصدمات كامنة لأجيال، وتظهر مرة أخرى في لحظات مفصلية؟ وكيف تنتقل الصدمة من الأفراد إلى التجمعات السياسية الأكبر مثل الدول، وتسهم في تشكيل الهويات السياسية، والمظالم، وتصنع السياسات؟
ازدادت الدعوات الدولية في السنوات الأخيرة، للمطالبة بالتعويضات والعدالة الإصلاحية إلى جانب ظهور سياسات التظلم الشعبوية التي مورست عبر التاريخ. لا شك أن السياسة الدولية باتت مملوءة بأمثلة عن العنف الماضوي الذي يعيد تأكيد نفسه في الوقت الراهن، ونتلمس ذلك في دعوات حركة «حياة السود مهمة» إلى روايات عن تراث العبودية والقمع العنصري، إلى الجهود المستمرة، لضمان الاعتراف ب«الإبادة» الجماعية للأرمن أو انتهاكات حقوق الإنسان في الإمبراطورية اليابانية.
يجادل ليرنر بأن الصدمة الجماعية، يمكن أن تساعد في رسم الخطوط بين المجموعات السياسية الدولية، وتأطير منطق العمل السياسي الدولي، ويرى بأن الصدمة الجماعية – وتشكيل الهوية التي تترتب عليها – هي قوة تسهم في تشكيل السياسة الدولية.
يحتوي الكتاب على ثلاث دراسات تشمل كلاً من الهند وإسرائيل والولايات المتحدة، للتفكير في الآثار المحتملة للنظرية من خلال معاينة خيارات السياسة الخارجية والداخلية لكل منها. من خلال دراسة الحالة، يشرح ليرنر كيف أن الصدمة الجماعية، تكمل الخيارات السياسية للنخب السياسية في كل دولة. هناك ادعاء طموح آخر؛ وهو أن حجة الصدمة الجماعية، تساعد في زعزعة استقرار «المفاهيم المُسلّم بها»؛ مثل: الحرب والأمن في العلاقات الدولية.
يتكون العمل من جزأين: الجزء الأول يتكون من ثلاثة فصول؛ هي: الصدمة الجماعية وصنع السياسة الدولية؛ وضع إطار نظري للصدمة الجماعية؛ الصدمة الجماعية والهوية: ارتباط ضروري. ويتكون الجزء الثاني من ثلاثة فصول أيضاً؛ هي: الاستعمار كصدمة جماعية: القومية الاقتصادية وبناء الدولة الذاتية في الهند؛ قومية الضحية في إسرائيل: دور محاكمة أيخمان في خطاب السياسة الخارجية الإسرائيلية؛ طمس حدود الحرب: اضطراب ما بعد الصدمة وتجميع الصدمات القتالية الأمريكية. يوضّح آدم بي. ليرنر أن الكشف عن دور الصدمة الجماعية في السياسة الدولية، أمر حيوي لسببين رئيسيين:
أولاً، يمكن أن يساعد في تفسير التوترات الطويلة بين الجماعات، وهو موضوع مترابط، خاصة مع عودة ظهور القومية والشعبوية على المستوى العالمي.
ثانياً، يدفع النظام في العلاقات الدولية إلى تفسير التكاليف الحقيقية طويلة الأمد للعنف الجماعي بشكل كامل، لا سيما عندما تصبح جزءاً لا يتجزأ من أوجه عدم المساواة وأشكال الظلم الهيكلية على المدى الطويل.
منعطف جديد للصدمة
يلفت آدم ليرنر انتباهنا إلى «منعطف جديد للصدمة» أو طريقة مستنيرة للصدمات في العلاقات الدولية. يقدم المؤلف حجة لإعادة هيكلة نظام العلاقات الدولية، بعيداً عن النموذج الراسخ القائم على الأحداث، والذي يفسر بشكل أساسي الآثار المباشرة للصراع (النزاعات). عند القيام بذلك، يشير إلى التناقض في كيفية التركيز على الأحداث الصادمة مثل الحروب والإبادة الجماعية وأعمال الإرهاب مع تجاهل التأثير الهيكلي والنفسي طويل المدى لمثل هذه الأحداث على الأشخاص المتضررين.
يبني ليرنر أفكاره على الأعمال النظرية لكاثي كاروث، وجيني إدكنز، وإيما هاتشينسون وغيرهم، لوضع نظرية؛ مفادها أن سرديات الهوية متداخلة مع الصدمة الجماعية للمجتمع. يقترح أن «المعالجة الاجتماعية- السياسية للعنف الجماعي» في الوقت الحاضر، تعكس سرديات هوية الصدمة، وتشكل خطابات المستقبل، في الأغلب لمواجهة تهديد وشيك.
يقدم المؤلف في الفصل الأول، الفجوة النظرية المركزية التي يتناولها هذا الكتاب: لطالما كان العنف الجماعي، بأشكاله المتنوعة، الشغل الشاغل في العلاقات الدولية، وفي الواقع، تؤكد معظم القصص كيفية نشأة النظام الدولي عن الحروب الوحشية أو العنف الاستعماري. ومع ذلك، على الرغم من هذه المركزية، فإن الخبراء في الأغلب يهملون آثارها الطويلة غير المباشرة، لا سيما أنها تظهر كصدمة جماعية. يناقش هذا الفصل أن الصدمة الجماعية تلعب دوراً تأسيسياً في النظام الدولي، وتشكيل التصورات والمؤسسات الدولية.
يضع الفصل الثاني نظرية الصدمة الجماعية كظاهرة ناشئة في السياسة الدولية. يبدأ بعلم الأنساب السياسي للصدمة، ويستخلص منها مفارقة مركزية في التجميع الجماعي للصدمة: الأحداث الصادمة تكبت الذاكرة، وتعزل الضحايا، ومع ذلك فإن الشهادة يمكن أن تكون لها عواقب سياسية هائلة، لتجنب الفهم الجزئي الإشكالي، يعرّف الفصل الصدمة الجماعية صراحةً عبر الأزمة متعددة المستويات في التمثيل المتأصل في تسييس الصدمة. علاوة على ذلك، فإنه يوضح كيفية تفاعل هذه الأزمة مع الظروف الاقتصادية والمؤسسية، ما يميز الصدمات الجماعية في المجتمعات التي لديها موارد للمعالجة النفسية والاجتماعية من أولئك الذين ليس لديهم مثل هذه الموارد. تساعد هذه الإضافة في مكافحة التحيز الغربي لكثير من الأدبيات الموجودة، وبناء عدسة قابلة للنقل عبر السياقات. في النهاية، يجادل الفصل بأن السرد أمر حيوي، لترجمة الصدمة إلى تصورات سياسية.
ويربط الفصل الثالث بين وضع إطار نظري للصدمة الجماعية في الفصل السابق، وفهم النظام الدولي الذي يتم تأطيره حول مفهوم الهوية. على الرغم من أن مصطلح (الهوية) محل خلاف كبير في نظرية العلاقات الدولية، فإن هذا الفصل يشير إلى أنه أمر حيوي، لفهم استقرار قضايا النظام الدولي، والدوافع. على الرغم من أن روايات الصدمة الجماعية يجب أن تتعامل مع العديد من خطابات الهوية الأخرى، فإن صدى رنينها العاطفي العميق وصلتها بالعنف الجماعي الذي يتغلغل في السياسات الكبيرة، يجعلها منافسة قوية بشكل خاص، ومن المحتمل أن تمارس تأثيراً هائلاً في التصورات الدولية.
توحيد الهند
يظهر الكتاب أنه في أعقاب الأحداث الصادمة، تصبح الصدمة وسيلة لتحديد هوية المجموعة، وتساعد في تكوين ثنائيات «نحن» و«هم». كما يجادل المؤلف في دراسة الحالة الأولى، فإن الصدمة الجماعية – من الحرمان والفقر والتمييز – وحدت الهند الاستعمارية المتنوعة عرقياً ودينياً وجغرافياً. تبنى القوميون الهنود في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هذه الأفكار للإشارة إلى التأثير المفقود للنخب العالمية الهندية. ومع ذلك، أثناء حركة سواديشي عام 1905، تم توجيه رسالة الوعي الاقتصادي إلى الجماهير من خلال الرموز والعروض الأدبية. أصبحت الصدمة الجماعية للاقتصاد السياسي الهندي في وقت لاحق أساس حركتها القومية في ظل حكم غاندي. كان الاكتفاء الذاتي (أو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي الوطني) متأصلاً في النماذج الاقتصادية للنخب السياسية في الدولة، بغض النظر عن ميولهم الأيديولوجية. يجادل المؤلف بأنه في الهند المستقلة، اختارت النخب السياسية، الاكتفاء الذاتي نموذجاً مناسباً للتنمية حتى في ظل استياء الجماهير؛ مثل مطالبتهم بالصيام لمدة نصف يوم للأمة. بناءً على نهجه النظري، يبين المؤلف أن حجة «المشاعر المناهضة للاستعمار» المستخدمة في الأغلب لا تنعكس جيداً على السياسة القومية المحددة للهند والتجربة الاستعمارية.
يحلل الفصل الرابع عبر دراسة الحالة هذه، تأثير الصدمة الجماعية في الخطابات الاقتصادية القومية في الهند خلال فترة الاستقلال، قبل أن تُضفي الخطة الخمسية الثانية (1956-1961) الطابع المؤسسي على نموذج التنمية الذاتية. على عكس تفسيرات العديد من المؤرخين لهذا النموذج على أنه مستوحى من الاشتراكية السوفييتية، يكشف هذا الفصل، جذور القومية الاقتصادية في الصدمة الجماعية، ويولي اهتماماً خاصاً للكيفية التي أسست بها روايات العنف الجماعي منطقاً يوازن بين السياسات الاقتصادية الليبرالية للإمبراطورية والمجاعات والقمع المدمر. يبدأ الفصل بجذور القومية الاقتصادية التي تعود إلى القرن التاسع عشر، ثم يحدد متغيراتها الأربعة الأكثر تأثيراً خلال فترة الاستقلال: غاندي، والماركسية، والشركات الكبرى، ونهروفيان. على الرغم من اختلاف هذه المجموعات في العديد من القضايا الرئيسية، فإنها تقاربت على فكرة أن الاكتفاء الذاتي كان ضرورياً، لحماية الهند من تزايد العنف الجماعي، وهو إجماع ساد في صنع السياسة الاقتصادية الخارجية الهندية لعقود.
الحالة الإسرائيلية
يرى المؤلف في الحالة الإسرائيلية، أن النخب السياسية في إسرائيل، استغلت الصدمة الجماعية للهولوكوست، لتعزيز طموحاتها السياسية ومصالحها الوطنية. يبتكر ليرنر مفهوم «قومية الضحية»، لشرح استراتيجية حكومة ديفيد بن غوريون، التي تم تبنيها خلال محاكمة أيخمان الشهيرة عام 1961. تقول الحجة إنه بينما كانت هناك صدمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الدولة الألمانية النازية، قمعتها نخب الدولة الإسرائيلية، لتركيز طاقاتها على بناء الدولة في عقد الخمسينات من القرن الماضي. ومع ذلك، استدعت المعارضة من حزب حيروت اليميني، مواجهة صدمة الهولوكوست. استخدمت حكومة بن غوريون المحاكمة، لتوحيد المجتمعات اليهودية المتنوعة من خلال غرس شعور «قومية الضحية». وقد أدى هذا بالفعل إلى زيادة انخفاض شعبية بن غوريون وحزبه «ماباي». ومع ذلك، استخدم بن غوريون أيضاً هذه الرواية، لإنقاذ وتسريع عملية إقامة علاقات ودية مع جمهورية ألمانيا الفيدرالية. يبحث الفصل الخامس في كيفية تصارع إسرائيل مع إرث الهولوكوست بمرور الوقت. من خلال القيام بذلك، يضع المؤلف نظرية لمجموعة متنوعة من الهوية القائمة على الصدمة تُسمى «قومية الضحية»، والتي تشير إلى إعادة التوجيه الاستراتيجي للمظالم من قبل القادة السياسيين. ويطبق هذا المفهوم الجديد على إعادة سرد رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون لصدمة إسرائيل الجماعية التأسيسية، وفقاً لأولويات حكومته خلال محاكمة عام 1961 للنازي السابق رفيع المستوى أدولف أيخمان. وجه بن غوريون مظالمه بشكل استراتيجي بعيداً عن ألمانيا التي سعى إلى تحقيق التقارب معها، وتجاه خصوم إسرائيل من العرب الذين صورهم على أنهم القوى الرائدة في معاداة السامية العالمية في العقود التي أعقبت سقوط الرايخ الثالث. كان لقومية الضحية هذه تأثير دائم في التوجه الدولي لإسرائيل؛ حيث ساعدت على دمج مئات الآلاف من المهاجرين اليهود من العالم العربي مع تأطير الخطابات الأمنية في الفترة التي سبقت حرب الأيام الستة عام 1967.
تأثير الصدمة بين قدامى المحاربين الأمريكيين
في الحالة الثالثة؛ وهي الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/ أيلول، يستخدم فيها ليرنر عدسة الصدمة، لفك شيفرة تأثير المحادثات حول اضطراب ما بعد الصدمة بين قدامى المحاربين في المجتمع الأمريكي. يجد بأن المناقشات حول اضطراب ما بعد الصدمة في الولايات المتحدة، أدت إلى محو المسافة في الجغرافيا والوقت للجمهور الأمريكي. يشير إلى أن الشعب رأى أن الحرب تخترق بيوتهم من مناطق بعيدة مثل العراق وأفغانستان؛ وذلك على شكل قدامى المحاربين الذين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة، ما أدى إلى إيذاء الذات الجماعية. ويؤكد المؤلف أن الجهل بمعاناة الملايين في العراق وأفغانستان، يوازي إيذاء الذات في المجتمع الأمريكي. ويركز الفصل السادس على كيفية قيام الخطاب المتزايد حول الصدمة بإضفاء إشكالية على المفهوم المحوري للحرب. يعاين الكاتب، على وجه التحديد، تفسير الصدمة من خلال تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية على الإرهاب. لم يبدأ القادة السياسيون الأمريكيون في الإشارة بشكل متكرر إلى اضطراب ما بعد الصدمة إلا قبل الدورة الرئاسية لعام 2008 مباشرة، ولكن بمجرد قيامهم بذلك، أصبح ما سمّاه الرئيس باراك أوباما «جرحاً بارزاً» للحروب المعاصرة، والذي تذرع به السياسيون من كافة الخلفيات باعتباره نتيجة للتدخل العسكري. هذا الارتباط، كما يقول الفصل، أسهم في طمس الخطوط المهمة حول مفهوم الحرب، وإعادة صياغة منطق التفاعل الدولي. أسهم الاهتمام العام المتزايد بمكافحة الصدمات في تآكل فريد للحدود الزمانية المكانية للحرب، ما أدى إلى توسيع عواقبها إلى مستقبل غير معروف وخارج منطقة الحرب، على الجبهة الداخلية. لم يعد هذا التحول يشكّل تصورات السياسة الخارجية فحسب؛ بل كانت له أيضاً تداعيات عميقة.
يشير المؤلف في الختام إلى أن الاعتراف بالإرث الكامل للعنف الجماعي كصدمة جماعية يكشف عن ديناميكيات محورية، لكنها كامنة في كثير من الأحيان، وتشكل السياسة الدولية على المدى الطويل. ويرى أنه يمكن للخبراء تفسير كيفية انعكاس النظم السياسية الدولية على انتشار الصدمة والتحكم فيها بشكل أفضل.