د. أيمن سمير

دخل القرن الثاني من حياته يوم 27 مايو الماضي، نموذج في المثابرة والإصرار والتحدي، قهر كل الفيروسات والأمراض السياسية والجسدية والنفسية، على أكتافه مهام ثقيلة، العالم ينتظر منه نزع فتيل الصراعات الكونية الجارية سواء بين روسيا والغرب أو بين الولايات المتحدة والصين.

يجيد الغوص في «المياه العميقة» للأزمات السياسية، يستطيع اكتشاف المسارات الجديدة وسط «الدخان الكثيف»،احترف حل المعادلات المستحيلة، ظل الاستقرار العالمي شغله الشاغل منذ أكثر من 70عاماً، الجميع يسأل عنه إذا غاب، ويثير الاهتمام والزخم كلما حضر، يظل لاعباً ماهراً في صناعة التاريخ، كما أن خرائط الجغرافيا تعترف بعبقريته النادرة، يحتفظ بعلاقات نوعية شكلت على الدوام المفتاح السحري «لتبريد الصراعات» و«تهدئة التوترات» في أرجاء المعمورة، يجيد لغات كثيرة، لكن أهمها لغة «بناء الجسور» و«الخطوط الساخنة».

يؤمن «بقوة الدبلوماسية» التي يرى فيها أفضل وسيلة «لتقييد القوة»، هو عاشق ومكتشف بارع «للمساحات المشتركة»، ويرفض «الصدامات العسكرية»، نقلت البشرية عنه استراتيجية «خطوة بخطوة» التي جنبت العالم الكثير من الصراعات والحروب قبل الجلوس على مائدة التفاوض يدقق في«خرائط الميدان»، فرغم دراسته للتاريخ في هارفارد إلا أنه أيقن أن «الواقع» هو الحل، هرب من النازية هو وعائلته من ألمانيا في بدايات الحرب العالمية الثانية، إلا أنه عاد لألمانيا قبل أن تنتهي الحرب، لكن كجندي مقاتل بجوار القيم الإنسانية والحضارية.

إنّه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي أثارت زيارته الأسبوع الماضي للصين «غيرة» البيت الأبيض، فرغم أن الرجل أبلغ المؤسسات الأمريكية بزيارته لبلاد التنين إلا أن الترحيب الحار به من جانب الرئيس الصيني شي جين بينج، ووزير دقاعه لي شانغ فو، جعل الإدارة الأمريكية تتساءل لماذا يرفض وزير الدفاع الصيني مقابلة نظيره الأمريكي لويد أوستن بينما يلتقي «مواطن أمريكي عادي»، لكن الحقيقة أنه ليس مواطناً عادياً، فهو هنري كيسنجر صاحب «الأفكار المبدعة» و«الحلول السحرية» على مدار 7 عقود كاملة.

خارج الصندوق

من يتأمل أفكار كيسنجر على مدار العقود العشرة الماضية يكتشف رؤيته واستراتيجيته التي قادته لتحقيق نجاحات هائلة لبلاده، فهو لا يصنف الآخرين على أنهم أعداء أو حتى منافسين، لكنه يبحث دائماً عن الطريق لنزع الفتيل من برميل البارود، ورغم أنه ينتمي لليبرالية الغربية بكل معانيها، إلا أنك تكتشف أنه أكثر رجال الغرب في «التسامح السياسي» ونسيان الأحقاد، بل لا يمانع في تحقيق مصالح الآخرين طالما لا تأخذ من حقوق بلاده، هنا لم ينجح كيسنجر فقط في وقف نزيف الجيش الأمريكي في فيتنام، بل نجح في تحويل فيتنام نفسها إلى حليف لأمريكا، بعد مفاوضات ماراثونية بدأت عام 1969 وانتهت عام 1973.

اهتمامه بالتفاصيل قاده لاكتشاف دبلوماسية «البينج بونج»، عندما اقترح تنظيم مباراة كرة الطاولة بين اللاعب الأمريكي جلين كوان ونظيره الصيني وزوهانج زيدونج في كأس العالم لكرة الطاولة عام 1971 في ناجويا باليابان، الأمر الذي مهد لزيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى بكين عام 1972، ويعود لكيسنجر وحده الفضل في اعتراف الولايات المتحدة رسمياً بالصين عام 1979 بعد 4 عقود كاملة من سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الحكم عام 1949، مهد كيسنجر لهذه الخطوة التاريخية من خلال قيادته للوفود الأمريكية للصين في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وبهذا حقق كيسنجر «المعادلة الصعبة» في «الاحتواء المزدوج» للصين والاتحاد السوفييتي السابق، فالاقتراب الأمريكي من الصين أبعد بكين ولو مؤقتاً عن موسكو، وبهذا تجنبت الولايات المتحدة تحالف أكبر قوتين شيوعيتين في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي نفس الوقت استطاع كيسنجر احتواء الصين عبر استراتيجية «الصراعات الآسيوية الآسيوية» وإيقاظ الخلافات بين الصين وجيرانها الآسيويين.

حضور جديد

اليوم ومع تحول الصين كمنافس استراتيجي للولايات المتحدة، وقلق واشنطن أن تأخذ بكين مكانها في قمة هرم القيادة العالمية، يتجدد دور كيسنجر الذي ينتظره الجميع في الشرق والغرب، فالرجل لم يخيب الظنون، وأخرج من بين«أوراقه الاستراتيجية»، رؤية جديدة صاغها في عبارات قصيرة عندما قال في السطر الأول منها «أن الصين وأمريكا لا يجب أن ينظر كلا منهما للأخر باعتباره خصم»، فمن يتعمق في تلك الرؤية يجد فيها الحل لكل الخلافات الصينية مع أمريكا والغرب في منطقة الإندو- باسيفك، وشرق آسيا بل في قضايا الملكية الفكرية والتجسس التجاري والقنابل الذرية، وكما فعل وهو في السبعينات، فإن مقاربة كيسنجر الجديدة تقول بضرورة تعاون واشنطن وبكين من جديد عبر التواصل والحوار والنقاش حتى يمكن إيجاد الحلول المناسبة للجميع، لأن البديل عن رؤية كيسنجر هو الانزلاق للصراع والاحتكام الى لغة البندقية والرصاص

قواسم روسية

أكثر سياسي أثبت أنه يفهم الطبيعة الروسية ومن قبلها طبيعة الاتحاد السوفييتي السابق هو هنري كيسنجر، أسباب كثيرة وراء ذلك، كيسنجر عمل في المخابرات الأمريكية كما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الذي هو ابن ذاكرة «الحبر السري» وردهات «الكي جي بي»، كما أن بوتن الذي يتحدث الألمانية بطلاقة بسبب سنوات عمله الطويلة في ألمانيا الشرقية يتشارك لغة كيسنجر المولود لعائلة ألمانية عام 1923 قبل أن يغادرها إلى لندن عام 1937 ومنها لنيويورك، كما أن رؤية كيسنجر والرئيس بوتين واحدة للاتحاد السوفييتي السابق، وهي أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم ولن يكون في صالح السلام والاستقرار الدولي، وهي رؤية كررها كيسنجر كثيراً، وما زال يرددها الرئيس بوتين أيضاً، ولهذا لم يكن مستغرباً أن يلتقي الرجلان أكثر من 25 مرة بعد أول لقاء جمعهما معاً عندما كان بوتن رئيس لبلدية سان بطرس برج في عهد الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلستن

المؤكد أن أطروحات كيسنجر التي يطرحها اليوم وهو في بداية القرن الثاني من حياته تشكل «الأساس الواقعي والعملي» لحل القضايا بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، والصين وروسيا من جانب آخر، ولعل البعض بدأ يفكر جدياً فيما قاله كيسنجر بأن الحل في أوكرانيا يبدأ بعودة طرفي الحرب لخطوط 24 فبراير 2022، وعندها يبدأ «التفاوض» الذي يشكل طريق الحل الوحيد الذي آمن به كيسنجر وما يزال.

[email protected]


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version