د. أيمن سمير

أثار المقترح الألماني بتشكيل منظومة دفاعية وصاروخية موحدة لكل القارة الأوربية أطلق عليها «درع السماء Sky Shield»،

خلافات كبيرة بين الدول الفاعلة في القارة العجوز، فرغم موافقة 19 دولة حتى الآن على «درع السماء» منها دولتان في «حالة حياد استراتيجي» هما النمسا وسويسرا، بالإضافة إلى فنلندا والسويد العضوين الجديدين في حلف الناتو، إلا أن دولاً كبيرة في أوروبا رفضت الفكرة الألمانية التي اقترحها لأول مرة المستشار الألماني أولاف شولتز في براغ أغسطس 2022، ومن هذه الدول الرافضة لدرع السماء الأوروبية فرنسا وإيطاليا وبولندا.

تقول برلين إن الحرب الروسية الأوكرانية أكدت للجميع عدم قدرة أي دولة أوروبية بمفردها على حفظ أمنها في مواجهة الصواريخ والمسيرات الروسية، كما أن هناك اتفاقاً على وجود «ثغرات دفاعية» في التغطية الدفاعية التي يوفرها «حلف الناتو» الذي يضم 23 دولة فقط من دول الاتحاد الأوروبي، ولهذا يتوجب أن يكون هناك جهد مشترك بين الدول الأوروبية لتحقيق «استجابة جماعية» لما ترى ألمانيا بأنه تهديد وتحد من الصواريخ والدرونات الروسية.

وتقوم الفكرة الألمانية على شراء الأوروبيين بشكل مشترك لأسلحة وأنظمة دفاع صاروخية لتحقيق الحماية للأجواء الأوروبية بثلاث مستويات، تبدأ بمنظومات الدفاع قصيرة المدى، ثم صواريخ ومنظومات دفاعية متوسطة المدى، وصولاً لاقتناء منظومات الدفاع الصاروخية طويلة المدى التي يمكنها تحييد المخاطر من الصواريخ بعيدة المدى وصواريخ «فرط الصوت» التي يمكن أن تنطلق من الأراضي الروسية والبيلاروسية أو حتى تلك التي يمكن أن تطلقها موسكو من السفن والغواصات الروسية في بحار ومحيطات العالم، وليس هذا فقط، فهناك من يرى أن «درع السماء» سوف تعزز من «القومية الأوروبية» و«الروح الأوروبية المشتركة» وهو ما يؤكده الانضمام المتزايد للدول الأوروبية ل«درع السماء» التي انضمت إليها في البداية 11 دولة، لكنها تكسب زخماً وقوة كبيرة كل يوم خاصة مع دعم الولايات المتحدة وحلف الناتو للمقترح الألماني الذي بدأ يأخذ مرحلة جديدة في التنفيذ باجتماع وزراء دفاع الدول المؤيدة لدرع السماء على هامش كل اجتماعات حلف الناتو منذ نوفمبر الماضي، فما هي آفاق تنفيذ هذه المبادرة الألمانية؟ وما هي الأسباب التي تقف وراء الاعتراضات الفرنسية والبولندية والإيطالية؟

سلسلة أوروبية

جاءت مبادرة «درع السماء» نتيجة لتزايد المخاوف الأمنية الأوروبية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، لكن هذه المخاوف كانت قائمة حتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية فمنذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، ظهرت مساعٍ كثيرة للحفاظ على أمن وثقافة وهوية القارة الأوروبية، وتباينت الآراء بين الأوروبيين حول الأدوات والوسائل لتحقيق هذا الهدف، حيث اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما أسماه «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي»، وهو يعني أن تبحث أوروبا عن مصالحها الخاصة بعيداً عن الاستقطاب بين الولايات المتحدة من جانب والصين من جانب آخر، كما سبق لفرنسا أيضاً أن اقترحت تشكيل «جيش أوروبي موحد» بعد أن وصف الرئيس الفرنسي ماكرون في أكتوبر عام 2019 حلف دول شمال الأطلسي «الناتو» بأنه «مات إكلينيكياً»، كما أقر الاتحاد الأوروبي رؤيته الاستراتيجية الأمنية والسياسية والاقتصادية في 40 صفحة أطلق عليها «البوصلة الأوروبية»، وهي رؤية استراتيجية شاملة للجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية، وسبق أن وافق الاتحاد الأوروبي على تأسيس «قوة تدخل سريع» قوامها 5000 عنصر في مارس 2021 بعد اكتشاف الدول الأوروبية عدم امتلاكها أي آليات للدفاع عن مصالحها في بؤر الصراعات والمناطق الملتهبة من العالم عقب اكتشاف أوروبا عدم وجود «أدوات تدخل سريع» لنقل وإنقاذ رعاياها عقب سيطرة حركة طالبان على الحكم في أغسطس 2021.

هل تنجح «درع السماء»؟

تمتلك «درع السماء» الأوروبية مجموعة من المحفزات وعوامل النجاح من أبرزها:

1- القبول والدعم

بعيداً عن الرفض الثلاثي الفرنسي والبولندي والإيطالي، هناك قبول عام لدى دول القارة الأوروبية في مختلف أقاليم القارة سواء في الجناح الشرقي القريب من روسيا أو حتى لدول وسط وغرب أوروبا، كما أن ثقة الدول المحايدة مثل سويسرا والنمسا في «درع السماء» سوف تشجع باقي الدول الأوروبية على الانضمام لدرع السماء، وكلما طالت الحرب الروسية الأوكرانية، مع عدم وجود أفق للحل الدبلوماسي، كلما زادت الهواجس الأوروبية من روسيا، وهو ما يصب في اتجاه انضمام العديد من الدول الأوروبية لدرع السماء.

2- التمويل

الدول الأوروبية سواء الأعضاء في حلف الناتو أو خارجه مطالبة بضرورة تخصيص نسبة 2 % من الناتج القومي للشؤون الدفاعية، وهو ما يوفر أموالاً بالمليارات لشراء السلاح والذخيرة خاصة تلك التي تتعلق بمنظومات الدفاع الجوي، فجوهر الرؤية الألمانية في «درع السماء» هو الشراء المشترك لأنظمة الدفاع والصواريخ لحماية الأجواء الأوروبية، كما أن الدول التي أعلنت مشاركتها في «درع السماء» من أكثر الدول الأوروبية ثراء ولديها موارد ضخمة وصناديق مالية لتمويل «درع السماء»، فعلى سبيل المثال انضمام دول فنلندا والسويد والنمسا وسويسرا وهولندا بالإضافة لألمانيا سوف يعزز من النجاح المسبق لهذه الرؤية الدفاعية الجديدة.

3- عدم التناقض

الولايات المتحدة التي تنفق نحو 850 مليار دولار بنسبة 3.7 % من ناتجها القومي على الشؤون الدفاعية رحبت ب«درع السماء» لأنها سوف تخفف من الأعباء الأمريكية تجاه الأمن الأوروبي، وكثيراً ما اشتكى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وحتى الرئيس الحالي جو بايدن، من أن الدول الأوروبية عليها أن تنفق أكثر، وتتحمل مسؤولية أكبر حيال الأمن الجماعي الأوروبي، ناهيك عن أن جزءاً كبيراً من الأموال التي سيجري إنفاقها على شراء السلاح والمنظومات الدفاعية سوف يكون من نصيب الشركات الأمريكية خاصة لوكهيد مارتن وريثينون تكنولوجيز، يضاف لكل ذلك أن حلف الناتو أكد دعمه الكامل وغير المشروط ل«درع السماء» التي ينظر إليها كمشروع مكمل لجهد حلف الناتو ولا يتعارض معه.

لماذا الاعتراض؟

لم تسجل أية اعتراضات إلا من جانب 3 دول وهي فرنسا وإيطاليا وبولندا، فلماذا تعارض وارسو وباريس وروما مبادرة «درع السماء»؟

أولاً: حسابات تاريخية فرنسية

هناك سلسلة من الأسباب دفعت باريس لمعارضة مبادرة «درع السماء»، من أهمها أن المبادرة الألمانية تجاهلت الأسلحة الفرنسية، لأن جميع منظومات الدفاع المقترحة لمختلف الأبعاد والمديات القصيرة والمتوسطة والبعيدة ليس من بينها منظومة الدفاع الفرنسية «سامب – تي»، فكل المقترحات تدور حول منظومة «أيرس تي» التي تنتجها شركة «ديل دفنس» الألمانية للدفاع قصير المدى، والذي يصل لنحو 30 كلم، ونظام باتريوت الأمريكي الذي يوفر حماية تصل إلى 200 كلم، ونظام الدفاع الجوي الأمريكي الإسرائيلي «أرو 3» للصواريخ البعيدة المدى وفرط الصوت والتي تطلق على ارتفاعات عالية جداً، وهو ما يعني أن أموال «درع السماء» سوف تذهب للشركات الألمانية والأمريكية والإسرائيلية دون أن تشارك الشركات الإيطالية والفرنسية التي تنتج منظومة الدفاع «سامب – تي»

كما أن فرنسا لديها قلق خاص من إعادة بناء القوة الألمانية بعد أن خصصت الحكومة الألمانية أكثر من 130 مليار دولار لتحديث الجيش الألماني، وسبب القلق الفرنسي أن امتلاك الجيش الألماني لكل هذه الأموال والأسلحة وقيادة برلين لمبادرة «درع السماء» يمكن أن يعيد النزعة القومية الألمانية التي قادت لكوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية، خاصة في ظل ما يقال اليوم بأن امتلاك الجيش الألماني لكل الأسلحة المتقدمة أوروبياً وأمريكياً سوف يدفع ألمانيا ليس فقط للمشاركة وقيادة المبادرات الدفاعية مثل «درع السماء»، بل يمكن أن يقود لقيام برلين بعمليات عسكرية مستقلة في المستقبل بعيداً عن الدول الأوروبية وحلف الناتو.

ثانياً: عدم الحماس الإيطالي

لا تتحمس روما للانضمام لمبادرة «درع السماء» لعدد كبير من الأسباب، لكن أهمها أن إيطاليا تعتقد أن «درع السماء» تهتم أكثر بمناطق شرق، وشمال، وشمال شرق أوروبا أكثر من جنوب أوروبا، وقال أكثر من مسؤول إيطالي إن «درع السماء» هدفها حماية المناطق القريبة من البحر الأسود، وبحر البلطيق، وبحر الشمال، وإن الاهتمام بجنوب القارة يأتي في مرتبة تالية، كما أن إيطاليا ترى في قواعد وأسلحة الناتو على أراضيها «ضمانة كافية» وهو سبب آخر حيث تشارك إيطاليا وفرنسا في تصنيع منظومة الدفاع الفرنسية التي هي خارج نطاق اهتمامات «درع السماء الأوروبية»

ثالثاً: اكتفاء بولندي

أكثر الدول التي عارضت «درع السماء» في الجناح الشرقي في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو كانت بولندا، لأن السياسة البولندية تثق ثقة كاملة في التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، كما أن بولندا تراهن على نحو 100 ألف جندي أمريكي في أوروبا غالبيتهم في الجناح الشرقي لحلف الناتو الذي يضم 9 دول «مجموعة بودابيست» في مقدمتها بولندا، بالإضافة إلى أن بولندا تعاقدت بالفعل على صفقات سلاح ضخمة منها صفقات لشراء 1000 دبابة من كوريا الجنوبية، و30 طائرة أمريكية من الجيل الجديد «أف 35»، لكن ربما أكثر الدوافع البولندية لعدم المشاركة في «درع السماء» التي تقودها ألمانيا هي الخلافات الألمانية البولندية حول ملف «التعويضات»، حيث تطالب بولندا ب 6 تريليونات دولار «تعويضات عن الاحتلال الألماني للأراضي البولندية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.

المؤكد أن الدول الأوروبية بما فيها أوكرانيا تراهن على نجاح «درع السماء» لتوفير حماية أكثر خاصة في ظل الحسابات التي تقول إن الخلافات الأوروبية الروسية لن تنتهي بنهاية الحرب في أوكرانيا.

[email protected]


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version