يعيش العالم الراهن في حالة متنامية من التعقيد، حيث نجد أن بعض الدول تظهر في سلوكاتها شيئاً من الجنون السياسي، وهذا يثير أسئلة عديدة عن عقلانية الدول في سياساتها الخارجية. يسلط كتاب «كيف تفكر الدول»؟ الضوء على عمليات صناعة القرار ومدى العقلانية التي تتحلى بها دائرة صنع القرار.
في كتابهما الرائد «كيف تفكر الدول: عقلانية السياسة الخارجية»، يتناول جون ميرشايمر وسيباستيان روساتو واحداً من أكثر الأسئلة إلحاحاً في العلاقات الدولية: هل الدول الفاعلة عقلانية؟ يتحدى ميرشايمر وروساتو الافتراض التقليدي القائل بأن العقلانية في إدارة شؤون الدولة مرادفة للنتائج الناجحة أو الإجراءات الأخلاقية.
يدرس المؤلفان القادة التاريخيين والمعاصرين، بما في ذلك جورج دبليو بوش وفلاديمير بوتين، لتوضيح أطروحتهما. ويقدمان من خلال تحليل أحداث مثل الحربين العالميتين، والحرب الباردة، وحقبة ما بعد الحرب الباردة، حجة مفادها أن معظم الدول تعمل بشكل عقلاني في أغلب الأوقات، على الرغم من أن النجاح غير مضمون.
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام بشكل خاص في الكتاب هو تحليله لقرار فلاديمير بوتين بالحرب على أوكرانيا. فعلى النقيض من التصورات الغربية العديدة التي تعتبر هذا التصرف غير عقلاني، يرى ميرشايمر وروساتو أن قرار بوتين كان مبنياً على تقييم عقلاني للمصالح الاستراتيجية لروسيا. ويؤكدان أن تصرفات بوتين كانت مدفوعة بنظرية توازن القوى ذات المصداقية، حيث ينظران إلى توسع حلف شمال الأطلسي باعتباره تهديداً وجودياً لروسيا.
يتعمق المؤلفان في استكشاف مفهوم العقلانية في السياسة الدولية، ويجدان أنه لا ينبغي الخلط بين العقلانية وتحقيق النتائج المرجوة أو الالتزام بالمعايير الأخلاقية. وبدلاً من ذلك، يتعلق الأمر بفهم طريقة عمل العالم للتنقل عبر السيناريوهات الدولية المعقدة بفعالية. يقدم الكتاب منظوراً جديداً لفهم سلوك الدولة، ولا يتحدى المفاهيم السائدة حول عقلانية الدولة فحسب، بل يثري أيضاً فهمنا لعمليات صنع القرار التي تشكل عالمنا.
العقلانية الاستراتيجية وعدم اليقين
يشير المؤلفان إلى أنه «قبل أن نتمكن من تعريف «العقلانية» في السياسة الدولية، من المهم أن نحدد بعض الجوانب الرئيسية للجهات الفاعلة ذات الصلة والبيئة التي تعمل فيها. ثمة فرق مهم بين صناع السياسات والدول. لذلك، من الضروري النظر في ما يعنيه أن يفكر الأفراد ويتصرفوا بعقلانية، وكذلك ما يعنيه أن تفعل الجماعات ذلك».
ويضيفان: هناك فرق بين ما نسميه «العقلانية الاستراتيجية» و«العقلانية الهدف»، على الرغم من أن المناقشة حول العقلانية في أدبيات العلاقات الدولية تركز بشكل شبه حصري على ما إذا كانت استراتيجيات الدولة عقلانية ولا تولي سوى القليل من الاهتمام لتقييم عقلانية أهدافها، ويشيران إلى أن «العالم الذي تعمل فيه الدول يتسم في المقام الأول بعدم اليقين. وبعبارة أخرى، فإن السياسة الدولية هي مشروع يفتقر إلى المعلومات، هناك نقص في الكثير من البيانات التي يحتاجها صناع السياسات لاتخاذ القرارات، والمعلومات الموجودة قد لا تكون موثوقة. ويواجه صناع القرار السياسي نقصاً في المعلومات عن دولتهم، وعن الدول الأخرى الأصدقاء والأعداء وعن التفاعلات المحتملة بين دولهم وغيرها. وهذه المشاكل، كلها مستعصية على الحل في الوقت الحاضر، وتصبح أكثر صعوبة عندما يحاول المرء توقع المستقبل».
ويقول المؤلفان: «إن العقلانية على المستوى الجماعي تدور حول كيفية عمل صناع القرار الذين يصوغون السياسة الخارجية معاً للتوصل إلى أهداف واستراتيجيات لتحقيق هذه الأهداف. وهذه المجموعة من الأفراد، وليس الدولة نفسها، هي التي تصنع السياسة. وعلى هذا فإن عقلانية أي دولة تعتمد على كيفية تجميع وجهات نظر صناع السياسة الرئيسيين لديها».
ويضيفان: «تتميز عملية التجميع العقلانية بميزتين رئيسيتين. الأولى هي آلية تسمح بالنظر المنهجي في الخيارات المتاحة. ومن الناحية العملية، يعني هذا أن أعضاء مجموعة صنع السياسات يضعون خياراتهم المفضلة والتي تستمد من فهمهم للعالم على الطاولة، وتتم مناقشة كل هذه الخيارات، وكذلك آراء كل من صناع السياسات بشأنها. إن مثل هذه المعاينة المنهجية ضرورية إذا أريد لعملية التجميع أن تكون عقلانية، لأنه في العالم غير المؤكد الذي تعمل فيه الدول، ليس من الواضح في كثير من الأحيان ما الذي يجب أن تهدف إليه أو أفضل السبل للوصول إلى هناك.
الميزة الثانية هي إجراء اتخاذ القرار من بين الخيارات المتاحة. وفي نهاية المطاف، فإن عملية التجميع التي تنتج القرار هي وحدها التي تكون عقلانية، أما الشخص الذي يفشل في اتخاذ القرار فهو شخص غير عقلاني».
نظريات قابلة للتطبيق
يقول المؤلفان: «من المؤكد أنه لا توجد نظرية ذات مصداقية تنطبق على كل المشكلات، وحتى لو تم تطبيقها في حالة واحدة، فقد لا تنطبق في وقت لاحق إذا تغيرت الظروف. وبعبارة أخرى، فإن صناع السياسات العقلانيين متشبثون بقوة بنظرياتهم، ولكنهم يقومون أيضاً بتقييم ما إذا كانت هذه النظريات قابلة للتطبيق في الحالة ذات الصلة، وهم على استعداد لتغيير رأيهم في مواجهة أدلة جديدة قوية».
ويشيران إلى أن الدول العقلانية تقوم بتجميع وجهات نظر صناع السياسات الرئيسيين من خلال المناقشات. وكما يجب أن يكون واضحاً، في أي موقف معين، من المرجح أن يكون لدى كل صانع قرار نظرية مفضلة ويميل إلى الاعتقاد بأنها تجسد الطريقة التي يعمل بها العالم بشكل أفضل، وبالتالي توفر الحل المعتمد للتعامل مع المشكلة المطروحة. في بعض الأحيان تتداخل هذه النظريات بشكل كبير، وفي أحيان أخرى تحدث خلافات حادة. بل إن بعض صناع السياسات قد يفضلون النظريات التي لا تتمتع بالمصداقية، رغم أن أغلبهم لن يفعلوا ذلك. وبالتالي فإن مسألة التجميع تلوح في الأفق بشكل كبير».
ويوضح المؤلفان أنه يمكن للمناقشة أن تجرى بثلاث طرق. أولاً، يناقش صناع السياسات، بما في ذلك صاحب القرار النهائي، الموقف الذي يواجههم بطريقة شاملة ويتوصلون بسهولة إلى الإجماع لأن نظرياتهم متداخلة إلى حد كبير. ثانياً، يدافعون عن نظريات مختلفة وسياسات مرتبطة بها، لكنهم يحلون خلافاتهم لأن النقاش يقود البعض إلى إعادة النظر في وجهات نظرهم. ثالثاً، يختلف المشاركون، ولا يستطيع أي طرف إقناع الآخر، ويحسم صاحب القرار النهائي النزاع. وعلى المستوى الجماعي، توفر المداولات آلية للمراجعة المنهجية لخيارات السياسة، وهو أمر ضروري في عالم غير مؤكد، حيث ليس من الواضح ما هي أفضل استراتيجية، وأنسب إجراء لاتخاذ القرار بين هذه الخيارات.
بنية الكتاب
يشرع جون ميرشايمر وسيباستيان روساتو خلال هذا العمل في رحلة شاملة لإعادة تعريف العقلانية الاستراتيجية في السياسة الدولية. نظَّم المؤلفان الكتاب بشكل منهجي، حيث يعتمد كل فصل على الفصل الآخر، لإنشاء حجة متماسكة حول عقلانية الدولة. يبدأ الكتاب بتحليل مفصل للحرب الروسية على أوكرانيا، متحدياً وجهة النظر السائدة بأن تصرفات روسيا كانت غير عقلانية. ويقال إن الحرب كان نتاجاً لعملية مداولات متأنية، حيث تشاور بوتين مع مستشاريه، وهو ما يتعارض مع وجهة النظر القائلة إنه تصرف بمفرده. ويستشهد الكتاب بأدلة، مثل مذكرة عام 2008 التي كتبها السفير ويليام بيرنز آنذاك، لدعم التأكيد أن القادة الروس، بما في ذلك بوتين، ينظرون إلى علاقة أوكرانيا مع الغرب على أنها تهديد كبير.
يوسع المؤلفان هذه الحجة لتشمل أحداثاً تاريخية أخرى، مثل تصرفات ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى، وقرارات اليابان التي أدت إلى بيرل هاربور، مفترضين أن هذه التصرفات كانت عقلانية من وجهة نظر الدول. ويجادلان ضد التصور السائد بأن الدول غالباً ما تتصرف بشكل غير عقلاني، ما يشير إلى أن العقلانية هي المحرك الأكثر شيوعاً في سلوك الدولة.
يعد الفصل الأول استكشافاً أساسياً لمفهوم العقلانية في السياسة الدولية. يبدأ المؤلفان بملاحظة توصيف مشترك من مسؤولين أمريكيين تجاه زعماء أجانب بأنهم غير عقلانيين، مستشهدين بأمثلة مثل صدام حسين، ومحمود أحمدي نجاد، وفلاديمير بوتين. وهذا المنظور سائد أيضاً في الأوساط الأكاديمية، متأثراً بثورة سلوكية في العلوم الاجتماعية تشير إلى أن الأفراد، بما في ذلك قادة الدولة، غالباً ما يتصرفون بطرق تتعارض مع العقلانية.
يهدف ميرشايمر وروساتو إلى معالجة سؤالين رئيسيين هنا: ماذا تعني العقلانية في سياق تفكير الدول وتصرفاتها، وهل الدول في الواقع جهات فاعلة عقلانية؟ يجادلان بأن العقلانية تنطوي على فهم العالم للتنقل فيه بشكل فعال في السعي لتحقيق أهداف محددة. وهذا يشمل أبعاداً على المستوى الفردي وعلى مستوى الدولة. على المستوى الفردي، يستخدم صناع القرار العقلانيون نظريات ذات مصداقية لفهم المواقف وتحديد السياسات. وعلى مستوى الدولة، تتميز العقلانية بتجميع وجهات نظر صناع القرار الرئيسيين من خلال عملية تداولية، مع وضع سياسات نهائية مبنية على نظريات ذات مصداقية.
ويؤكدان في الفصل الثاني أن الجهات الفاعلة العقلانية، سواء كانت من صناع السياسات أو الدول، تسعى جاهدة لفهم البيئة الغامضة لاتخاذ قرارات استراتيجية حكيمة، وهذا يمهد الطريق لفهم التعقيدات والتحديات الكامنة في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية. ويعرض الفصل الثالث تعريف المؤلفين للعقلانية الاستراتيجية، حيث يجدان أن السمة المميزة لصانعي السياسات العقلانيين هي اعتمادهم على نظريات ذات مصداقية لتوجيه الخيارات السياسية. ويمتد هذا النهج إلى الدول، مع الشرط الإضافي المتمثل في ضرورة أن تنجم السياسات عن عملية صنع القرار التداولية. في الفصل الرابع، يدرس ميرشايمر وروساتو بشكل نقدي التعريفات السائدة للعقلانية الاستراتيجية التي يقترحها علماء الاختيار العقلاني وعلماء النفس السياسي، ويجدانها غير كافية، إذ يؤكدان أنه من أجل فهم أكثر دقة للعقلانية، لا بد من تجاوز النماذج الحالية.
في الفصلين الخامس والسادس، يحلل المؤلفان عشر حالات من اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى والأزمات، ويعيدان تقييم هذه الحالات، التي غالباً ما يتم الاستشهاد بها كأمثلة للسلوك غير العقلاني، لتوضيح كيف تنخرط الدول باستمرار في العمليات التداولية وتبني سياساتها على نظريات ذات مصداقية.
في الفصل السابع، يعترف المؤلفان بأن الدول لم تتصرف دائماً بعقلانية من خلال تقديم أربعة أمثلة على اللاعقلانية الاستراتيجية. يضيف هذا الفصل توازناً إلى حجتهما، موضحاً أنه على الرغم من شيوع العقلانية، فإنها ليست عالمية.
ينتقل التركيز في الفصل الثامن إلى مفهوم عقلانية الهدف، وتحديداً في سياق بقاء الدولة. يتحدى المؤلفان فكرة أن الدول غالباً ما تُخضع بقاءها لأهداف أخرى، وتقدم أدلة على عكس ذلك.
وأخيراً، يتعمق الفصل التاسع في مضامين حجج المؤلفين لكل من نظرية وممارسة السياسة الدولية. ويؤكد هذا الفصل أهمية النتائج التي توصلا إليها لفهم سلوك الدولة والتنبؤ به على الساحة الدولية.
يقدم الكتاب بشكل عام إعادة تقييم للعقلانية الاستراتيجية في العلاقات الدولية، ويساهم بشكل كبير في شرح كيفية تنقل الدول في عالم السياسة الدولية المعقد.