د. أيمن سمير
دولة آسيوية بمواصفات عالمية، نموذج مثالي في التوازن والتعاون مع الجميع، تستطيع في الصباح أن تجلس مع سيد البيت الأبيض، وفي المساء من نفس اليوم يكون هناك لقاء مع «رجل الكي جي بي» وحاكم الكرملين، هي الأكبر من حيث عدد السكان، تبوّأت هذا العام المركز الخامس اقتصادياً على مستوى العالم، وبهذا أزاحت بريطانيا الدولة التي استعمرتها لعقود طويلة إلى الاقتصاد السادس. عام 1965 كان دخل الفرد السنوي لا يزيد على 61 دولاراً، لكن اليوم زادت فيها أعداد الطبقة الوسطى بمعدلات قياسية، ويزيد فيها سنوياً المليارديرات بأرقام تقول إننا أمام حيوية اقتصادية تعطي الأمل لتحقيق نمو حقيقي ومستدام للاقتصاد العالمي.. النمو الاقتصادي فيها هو الأكبر عالمياً في الوقت الراهن، وهناك توقعات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس أن يبلغ حجم اقتصادها عام 2035 نحو 7.5 تريليون دولار، وبعد أن كان ينظر إليها في السابق بأنها في آخر الصفوف باتت اليوم نموذجاً في التحول الرقمي، والتكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، بل وتنافس بقوة في مجال الفضاء واكتشاف المجرات بعد أن نجحت المركبة الفضائية «تشاندريان-3» في الهبوط على القطب الجنوبي للقمر، وهو ما يقول بوضوح أنها باتت رابع دولة تصل إلى القمر، الأمر الذي زاد من طموحات شعبها ليس فقط باكتشاف النجوم والكواكب القريبة بل أصبح لديها خطة طموحة، وغير مسبوقة لاكتشاف الشمس.
توصف بأنها أكبر ديمقراطية في العالم، لأن عدد سكانها يزيد على 1.4 مليار نسمة، وهي بهذا أكبر من كل عدد الناخبين في الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 500 مليون نسمة فقط، تحظى بمكانة خاصة في عالم السينما والفنون، فالأفلام والمسلسلات التي تنتجها تدخل العقول والقلوب من أوسع الأبواب، وهي المنافس الأول لأفلام هوليوود الأمريكية.
أتحدث عن الهند، أو بلاد «بهارات» كما تسمى في الدستور والشعر الملحمي الهندي، فهي بلاد العجائب والتنوع البشري والثقافي، وباتت مؤخراً من الدول التي تنفق كثيراً لتعزيز صورتها ومكانتها ليس فقط في المحيط الآسيوي بل على المستوى الدولي، فكيف صاغت الهند معادلاتها الجديدة في السياسة والاقتصاد والثقافة؟ وما هي المعوقات التي تحول دون وصول الهند إلى الاقتصاد الثاني أو الأول عالمياً في الوقت الراهن؟ وكيف للدول العربية والشرق أوسطية أن تبني مستقبلاً مشتركاً مع الأمة الهندية التي كانت وما تزال تحتفظ بقواسم مشتركة كثيرة مع الأمة العربية؟
أوركسترا لا تخطئ
اللافت أن الهند تحقق كل ذلك بهدوء ودون أي ضجيج بل تكسب على كافة المستويات والتحالفات بعد أن أدركت أن الخلافات السياسية لا يمكن حلها إلا عبر طاولة المفاوضات، ولهذا نجحت الهند في احتواء كل الخلافات التي وقعت على الحدود مع الصين في منطقة لاداخ، وكان لقاء رئيس الوزراء الهندي مودي مع الزعيم الصيني شي جين بينج على هامش قمة مجموعة البريكس الأخيرة في أغسطس الماضي في جنوب إفريقيا بمثابة «خريطة طريق» لاحتواء أي خلاف مستقبلي ينتج عن الخلافات التاريخية المتعلقة بالحدود في منطقة لاداخ، وهو ما يقول إننا أمام «بصيرة سياسية» تعي تماماً أن التفسير الحقيقي للخلافات والحروب ما هي إلا «فرص ضائعة» على الشعوب لتحقيق السلام والاستقرار والازدهار، ورغم كل الخلافات والحروب السابقة بين الهند وباكستان إلا أن البلدين الجارين يعملان على تعزيز الاستقرار الداخلي والإقليمي بما يدفع نحو مقاربة ينتظرها الجميع في القريب تساهم في بناء مستقبل واعد لشعوب كل شبه القارة الهندية، ولهذا نجحت السياسة الهندية في العزف على كل المسارات والنجاح فيها جميعاً دون أن تكسب مساراً على حساب آخر، وتجلى هذا الإبداع الهندي في سلسلة من المقاربات وهي:
أولاً «توازن المصالح»:
عضوية الهند في مجموعة البريكس التي تضم أيضاً الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا قبل أن تنضم إليها 6 دول في العام الجديد، هي عنوان للتوازن، وروح العمل الجماعي التي تتحلى بها السياسة الهندية، فالهند لم تنظر لخلافاتها مع الصين، ولم تخش غضب الغرب عليها بسبب العلاقات الودية التي تجمع رئيس وزرائها ناريندا مودي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أنها لم تتراجع عندما قيل إن هدف البريكس هو تحدي مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، بل هناك مؤشرات كثيرة تقول إن الهند ربما تكون الدولة الوحيدة في البريكس التي لديها في نفس الوقت فرصة للانضمام لمجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، وهذا مؤشر على أن الهند تبحث عن مصالحها، وليس للمناكفة السياسية مع الآخرين، ونتيجة لهذا استفاد الاقتصاد الهندي من المزايا النسبية التي تقدمها مجموعة البريكس مثل مزايا بنك التنمية الجديد، وصندوق الاحتياطي التابع للبريكس دون أن تفقد الهند المزايا من عضويتها في المؤسسات المالية الغربية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو نادي باريس.
ثانياً «تحالف الكواد الرباعي»:
رغم الصداقة الكبيرة التي تجمع القيادة الهندية والروسية إلا أن هذا لم يمنع الهند من الانضمام لتحالف «الكواد الرباعي» الذي يضم مع الهند كلاً من الولايات المتحدة واستراليا واليابان ومرشح للانضمام إليه كوريا الجنوبية وبعض الدول الأخرى في جنوب شرق آسيا، ونجحت العضوية الهندية في هذه التجمع الذي بدأ اجتماعاته لأول مرة عام 2007، وأحياه بقوة الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما كانت قمة الكواد أول اجتماع متعدد الأطراف يعقده الرئيس بايدن بعد دخوله للبيت الأبيض، ونجحت الهند من خلال عضويتها في الكواد أن تصيغ لغة تصالحية تجاه كل من الصين وروسيا تعزز من فرص الحفاظ على السلام العالمي بعيداً عن لغة الاستقطاب التي لن يستفيد منها أحد.
ثالثاً «عضوية مجلس الأمن»:
ربما تكون الهند من أكثر الدول القريبة جداً للحصول على العضوية الدائمة لمجلس الأمن في ظل الحديث عن توسيع العضوية، فهي ليست فقط الدولة الأكثر سكاناً والأعلى نمواً في الاقتصاد، بل هي الدولة التي تشارك الصين وروسيا في البريكس، وتشارك الولايات المتحدة واليابان واستراليا في الكواد، ولا يمر عام دون أن تكون هناك قمم هندية مع زعماء الولايات المتحدة وروسيا والصين، فقدرة الهند على اكتشاف «فرص مشتركة» مع جميع القوى الإقليمية والدولية آسيوياً وعالمياً جعل الهند من أقرب الدول للفوز بمقعد دائم في مجلس الأمن.
رابعاً «صيدلية العالم»:
الهند عبرت عن اتساقها الكامل مع كل الأهداف الإنسانية ليس فقط باحترامها للتنوع الثقافي والديني، بل بمدّ يد الخير والتعاون والتشارك عندما يكون هناك أزمات عالمية، وعندما جاءت جائحة كورونا كشفت الهند عن دورها الإنساني والطبي على مستوى العالم، فالأرقام المليارية من اللقاحات والمستلزمات الطبية التي قدمتها الهند للعالم وتبرعت بها للأمم المتحدة وللدول الفقيرة تقول إننا أمام دولة تشكل «ذراع ورافعة» للبشرية، وهو ما يقول بوضوح إن الهند أصبحت ضمن الأرقام الصعبة والمعادلات الحساسة التي يمكن أن تشكل جدول الأعمال العالمي، بوصفها لاعباً رئيسياً ونموذجاً يحتذى به للآخرين، وبالإضافة إلى أنها تشكل موطناً لسدس البشرية، ولأكبر جيل من الشباب في العالم، فهي تقوم بأدوار رائدة على المستويين الإقليمي والدولي، ليس فقط من خلال الدعم الإنساني بل بتمويل التنمية لدول تعاني مثل أفغانستان وسريلانكا، وهو ما يقدم للهند في ذات الوقت فرصة ذهبية للعب دور أكبر على الساحة الدولية، وإعادة صياغة الأجندة الدولية، وما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي يجري تشكيله في الوقت الراهن.
خامساً «دبلوماسية مبدعة»:
لعل ما نراه من نجاح كبير للهند في قيادة مجموعة دول العشرين في العام الجاري نحو التغلب على المشاكل العالمية الاقتصادية، والاستقطاب السياسي، خير نموذج على ما تتمتع به الدبلوماسية الهندية من قدرة على الفعل والتأثير الإيجابي، وقد اختارت الدبلوماسية الهندية «عنوان مبدع» لقمة العشرين هذا العام هو «دولة واحدة، أسرة واحدة، مستقبل واحد»، وهوما يقول بوضوح أن الهند بلد ينحاز قبل أي شيء للقيم الإنسانية الأساسية وهي 6 قيم اعتبرتها نيودلهي أولوية لها هذا العام وهي، التنمية الخضراء، وتمويل التخفيف من آثار تغير المناخ وحركة، والنمو المتسارع والشامل والمرن، وتسريع التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتحول التكنولوجي والبنية التحتية الرقمية العامة، والمؤسسات متعددة الأطراف للقرن الحادي والعشرين، والتنمية التي تقودها المرأة.
سادساً «القوة الشاملة»:
المدقق في تفاصيل ما وصلت إليه الهند يتأكد له أنه بلغت بالفعل كل عناصر القوة الشاملة، فهي بلاد مترامية الأطراف بنحو 3.2 مليون كلم مربع، وعدد سكانها هو الأكبر في العالم، وقفزت معدلات النمو الاقتصادي فيها لأكثر من 9.1 % عام 2021-2022، ورغم كل التحديات تجاوز النمو الهندي في عام 2022-2023 عتبة 7.2%، وهو ما يجعل الهند تشارك بنحو 3.73 % من إجمالي الناتج العالمي الذي بلغ نحو 100 تريليون دولار في العام الماضي، وكل هذا ساهم ليس فقط في نقل الملايين من خانة الفقر إلى الشرائح المتوسطة، بل ساعد الحكومة الهندية على مزيد من الإنفاق العسكري لتحديث قواتها المسلحة ورفدها بكل الأسلحة والمعدات الحديثة، وأنفقت الهند نحو 73 مليار دولار على الشؤون الدفاعية عام 2022، وهو ما يساوي 9 % من الإنفاق الحكومي حيث تحتفظ الهند بثاني أكبر جيش من حيث عدد الجنود والاحتياطي في العالم حيث يخدم 1.4 مليون جندي في الجيش حالياً، بالإضافة إلى أكثر من مليوني جندي في الاحتياطي، كما أن الهند دخلت «النادي النووي» من أوسع أبوابه، ورغم امتلاك الهند للأسلحة النووية وللمثلث النووي القادر على توصيل القنابل النووية من الأرض أو الجو أو البحر إلا أنها لم تهدد يوماً باستخدام السلاح النووي، بل انتقدت نيودلهي موسكو عندما صدرت بعض التصريحات الروسية بإمكانية استخدام السلاح النووي على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، وتتبع الهند سياسة تقوم على أنها لن تبدأ باستخدام السلاح النووي، وأن السلاح النووي لديها ما هو إلا وسيلة ردع وضمان لحماية مساحتها الشاسعة.
سابعاً: «الهند.. فكرة وثقافة»:
عناصر القوة التي تملكها الهند لا تقتصر على القوة الاقتصادية والعسكرية؛ بل تعد الهند من أوائل الدول التي أدركت أهمية «القوة الناعمة» التي تتمثل في بناء «صورة نمطية إيجابية» عن ذاتها في الداخل وفي الخارج، ونجحت في هذا الأمر بشكل أذهل الجميع، لهذا غزت الأفلام والمسلسلات الهندية غالبية بيوت العالم، وهو ما كان خير تمهيد لقبول البضائع والتكنولوجيا الهندية فيما بعد، فالهند لديها كل مفردات القوة الناعمة مثل التسامح، واليوجا، وسينما بوليوود، والديمقراطية، والمطبخ الهندى والكريكيت، ومنذ توليه الحكم رسم رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندرا مودى، الصورة التي يريد العالم أن يرى بها بلاده عندما قال «الهند ليست أمة فحسب، بل هي أيضاً فكرة وثقافة، وذلك من خلال تقديم النموذج الهندي القائم على قبول الآخر والتعايش بين مجموعة واسعة من الطوائف والأديان والأمم واللغات والطبقات والأعراق والألوان والعادات، وفي عالم الحروب والصراعات تبرز الهند كنموذج وفكرة «للاعنف والمقاومة السلمية» التي ارتبطت بزعمائها الكبار خاصة مؤسسها المهاتما غاندى، فضلاً عن ارتباط الهند بقيم مثل السلام النفسي والتأمل الداخلي، كما أن السينما الهندية أنتجت بشكل مشترك مع باكستان عدة أفلام بهدف تعزيز السلام والثقة بين الشعبين، وهو ما أوجد مناخاً جديداً لم يكن موجوداً في العقود التي تلت استقلال الهند وباكستان.
ثامناً «الممر الهندي للتنمية»:
الهند من الدول التي تتجاوب مع كل فكرة هدفها الحفاظ على حياة الإنسان وسلامة كوكب الأرض، ونتيجة لهذا حصل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودى عام 2018 على جائزة أبطال الأرض للقيادة السياسية، وذلك لأنه تعهد بتخلص الهند من جميع المواد البلاستيكية أحادية الاستخدام فى البلاد بحلول عام 2022، ودعمه للتحالف الدولي للطاقة الشمسية، بالإضافة للدور الكبير الذي لعبته الهند في مجال العدالة المناخية في البلدان المتقدمة والنامية.
تاسعاً – « الممر الهندي »:
نتيجة للنمو الهائل سكانياً واقتصادياً وحاجة العالم إلى دعم سلاسل الإمداد تم الاتفاق على هامش قمة مجموعة دول العشرين التي استضافتها الهند في 10 سبتمبر الماضي على إنشاء «الممر الهندي للتنمية» وتقوم الفكرة على ربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، وهو ما يعزز الروابط التاريخية بين الأمتين العربية والهندية والتي كان لها على الدوام روابط وعلاقات متميزة خاصة بين الهند ودول الخليج العربي. بالفعل تصعب الكلمات أن تصف دولة بحجم وعظمة الهند، فالهند هي أكبر من دولة، وأعظم من أمة، إنها فكرة ونمط حياة يحظى بحب وإعجاب الجميع حول العالم.