بعد أكثر من ثلاثين عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي، لا يزال نقد اشتراكية الدولة يستخدم لرفض بدائل للرأسمالية، بغض النظر عن الدمار البيئي والاجتماعي الذي تخلفه الرأسمالية العالمية. يتساءل هذا الكتاب عما إذا كانت هناك جوانب إيجابية بيئية برزت من تجارب عدد من الدول الاشتراكية خلال عقود، وكيف يمكن الاستفادة منها في المستقبل؟

مع تفاقم أزمة المناخ، يرى سالفاتور إنجل دي ماورو أننا بحاجة إلى إعادة تقييم الممارسات والسياسات البيئية لاشتراكية الدولة، خاصة وأن لها فوائد بيئية أكثر، ويرى أنه بدلاً من استبعاد تراث اشتراكية الدولة تماماً، يجب علينا استعادتها من أجل الأهداف الاشتراكية البيئية المعاصرة.

يشير إنجل دي ماورو، من خلال نهج مقارن ومتعدد المقاييس، إلى الخبرات الاشتراكية للدولة شديدة التنوع والبنّاءة بيئياً. يركز الكتاب على تجارب من الاتحاد السوفييتي إلى الصين وكوبا حول ما نجح، وما لم ينجح، وكيف يمكننا التحرك نحو مستقبل اشتراكي بيئي.

 يتشارك هذا الكتاب (الصادر عن دار بلوتو برس في يوليو/ تموز 2021) في وجهة النظر مع الذين يتساءلون عن الاشتراكية أو من هم منفتحون على تفسيرات مختلفة للاشتراكية وتاريخها. الكتاب بالتأكيد ليس عملية مشاركة بريئة من جانب المؤلف، فهو أيضاً كأي شخص، لديه مجموعة من المبادئ والميول السياسية، والتي يحددها هنا على أنها نوع أناركي شيوعي ونسوي (بيئي) من الاشتراكية البيئية، والتي قد لا تكون واضحة دائماً في الطرق التي يعبّر بها عن نفسه، ولكن من المهم بمكان الاطلاع على أفكاره وتقييمها والاستفادة منها في السياق الذي يخدم رفاه مجتمعاتنا.

 وجهة نظر اشتراكية

 يستعرض المؤلف وجهة نظر اشتراكية حول حماية البيئة على خلاف الآراء التي تنبثق من الرأسمالية، ويقول: «هذا الكتاب ليس بحثاً حول إيجاد الأشياء الجديرة بالثناء في الدول «الاشتراكية»، لكنه حول إعادة النظر في آثارها البيئية وفقاً للسياقات العالمية والبيئية الأوسع، لمحاولة فهم التحديات التي يمكن توقعها في النضال من أجل الاشتراكية، وما يمكن القيام به بشكل مختلف من أجل مستقبل اشتراكي، وهو رد على الخطاب الرأسمالي والبيئي الذي لا يزال سائداً».

 ويذكر أنه «يجب تكليف كل أولئك الذين يفضلون الرأسمالية أو يروجون ل«الديمقراطية» الرأسمالية بشرح كيف يمكنهم دعم النظم الاجتماعية المبنية على أحوال تاريخية وراهنة. أظن أن هذا لن يحدث حتى تتم هزيمة القوى الداعمة للأنظمة الرأسمالية، والأفضل، إنشاء نظام مساواة لا طبقي»، ويرى أنه «بدلاً من رفض الدول الاشتراكية، لا بد من فهم أسباب المسارات التي اتخذتها، وفهم السياقات التي حدثت من خلالها تلك المسارات. من دون القيام بذلك، لا يمكن معارضة المعلومات المضللة الهائلة والساحقة حول الاشتراكية ووضع بدائل واستراتيجيات سياسية عملية للتغلب على الرأسمالية (النظام الأكثر تدميراً بيئياً في تاريخ الإنسانية)، ومنع إلحاق المزيد من الضرر بالكوكب والشروع في بناء مجتمع يراعي الحساسية البيئية. المهمة ليست صياغة أي مخططات للمستقبل، وحتى لو كان ذلك كمشروع، سيتطلب أولاً نهاية الرأسمالية في معظم أنحاء العالم على الأقل من أجل إنشاء مجالس شعبية منسقة عالمياً لاتخاذ قرارات، وكتابة مبادئ توجيهية تهتم بحساسية المكان. من الواضح أن هذا أبعد ما يكون عن الظروف السياسية الحالية. بدلاً من ذلك، يمكن للمرء، في الواقع، أن يتعلم من الماضي فيما يتعلق بأنواع المواقف والإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى أنواع النتائج والموروثات؛ وذلك لبذل قصارى جهدها لمنع – أو على الأقل – تقليل الدمار البيئي المرتبط بالعديد من الاشتراكيين».

 يظهر الكتاب ويؤكد خلال معظم الفصول أهوال «الديمقراطيات» الليبرالية والرأسمالية عموماً، لأن الديمقراطيين الليبراليين والرأسماليين لن يشعروا بالمسؤولية تجاهها. يرى المؤلف أنه «يجب مقاومة أي تنازلات لمثل هؤلاء الأيديولوجيين مع عدم الوقوع في أي تمثيلية للذهنيات الاشتراكية الماضية والحالية. ولتحقيق ذلك، يجب مواجهة حقائق الاشتراكية، لا تجاهلها أو نبذها باعتبارها كائناً غريباً آخر».

 ويشير إلى أن الجدال مع مناهضي الاشتراكية وخاصة مع مناهضي الشيوعية حول تصحيح الشيوعية لا يختلف كثيراً عن الجدل مع مناهضي الأناركيين حول الكف عن تعريف اللاسلطوية على أنها فوضى، قائلاً إنه «من المحتمل أن يكون جهداً غير مثمر لأن الخصوم السياسيين لحركات المساواة يهتمون عادة بالحفاظ على السلطة أو الحفاظ على امتيازاتهم (سواء تم التعبير عنها صراحة أو لا). وينبغي أن يكون التثقيف والتحريض والمناقشة والإقناع أنشطة ذات أهمية قصوى في هذا الصدد. إن معركة الأفكار – إذا رغب المرء في إجراء مقارنات للحرب – يتم خوضها حقاً ضد الخصوم المدركين لذواتهم وليس مع معظم الناس، الذين قد يرون حتى الحجج من هذا النوع على أنها تخلو من أي معنى».

  يذكر المؤلف أيضاً: «تشكلت أنواع السياسات البيئية وتأثيراتها بشكل كبير من خلال التدخل المباشر من البلدان الرأسمالية، بشكل أساسي عن طريق العلاقات الاستعمارية الجديدة، بما في ذلك الحروب بالوكالة والحروب المباشرة. هذا هو السبب الذي يجعلنا ندرك أنه من المهم التمييز بين الدول الاجتماعية، مثل الاتحاد السوفييتي أو جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية قبل عام 1986، من الحكومات الاشتراكية ذات الاقتصادات الرأسمالية أو الخاضعة للنفوذ الاستعماري الجديد، مثل بورما في ظل حزب البرنامج الاشتراكي».

 اشتراكية الدولة والبيئة

 يبدأ المؤلف الفصل الأول والثاني بنظرة تاريخية وجغرافية لصعود وتطور الحركات والدول الاشتراكية. هذه الخلفية مهمة في تبديد سوء التوصيف المنتشر للاشتراكية والدول الاشتراكية بحسب ما يعبّر عن ذلك، قائلاً: «عندما ينفر أي شخص من الاشتراكية أو يعتنقها، فإن السؤال الأول الذي يجب أن يطرحه هو: أي اشتراكية؟ يسلط المؤلف الضوء على وجهات النظر العالمية التي يتم التعبير عنها في التيارات الاشتراكية، بهدف تبديد المفاهيم الخطأ السائدة عن الاشتراكية، بما في ذلك المفاهيم البيئية، وتناقض فكرة الدول الشيوعية، وهو مفهوم يتناقض بشكل أساسي مع ما دافعت عنه جميع الحركات الشيوعية إضافة إلى المفكرين.

  يتناول في الفصل الثالث فضح وتشريح مثل هذه الأفكار حول اشتراكية الدولة عن طريق المقارنات التجريبية التي توضح التأثيرات البيئية المختلطة إلى الإيجابية لاشتراكية الدولة ودحضها منطق المقارنات التي لا تأخذ في الاعتبار الارتباطات العالمية. يتناول الفصل الادعاء القائل إن السجلات البيئية للدول الاشتراكية هي الأسوأ على الإطلاق أو أسوأ من السجلات الخاصة بالديمقراطيات الرأسمالية. يرى المؤلف أن هذه الآراء تستند إلى أمثلة مثيرة مغرضة ومقارنات عشوائية. عادة لا يتم توضيح المعايير أو الأطر التحليلية ويتم الاستغناء عن الأحكام بشكل أساسي على أساس الانطباعات أو الاستخدام الانتقائي للأدلة، بدلاً من إثباتها من خلال التحقيق المنهجي. عادة ما تكون أطر المقارنات ضمنية وفي الأغلب تستند إلى افتراضات خطأ. يمكن أن تكون مطلقة (الأسوأ)، متزامنة وغير متزامنة. عندما يتم إجراء المقارنات بدقة ويتم النظر في مجموعة متنوعة من أنواع الأدلة، فمن الواضح أن الواقع هو في الأغلب عكس ما قيل لنا. بشكل عام، تعد الأنظمة الرأسمالية، وخاصة الديمقراطيات الليبرالية، أسوأ بكثير على كوكب الأرض، تاريخياً وحاضراً. ويزداد الأمر سوءاً إذا شملنا الأعمال التجارية المربحة دولياً والتي نشأت من الاقتصاد الصيني منذ الثمانينات. في نهاية المطاف، فإن مقارنة البلدان المترابطة تاريخياً والتي غيرت بعضها بشكل متبادل هي مهمة مشكوك فيها. على أسس حيوية-فيزيائية، تعتبر المقارنات في معظمها إشكالية وهناك حاجة إلى مزيد من البحث لاكتساب فهم أوضح لكيفية مقارنة السياقات والتاريخ الحيوي- الفيزيائي المختلف. لهذه الأسباب، يجب على الأقل إجراء المقارنات في التاريخ الاجتماعي والبيئي للبلد ووفقاً للعمليات العالمية والصلات المتبادلة عبر البلدان، والتي تختلف جميعها بمرور الوقت.

 نماذج اشتراكية

 يقدم المؤلف في الفصل الرابع السياقات الأوسع والمحددة التي تحتاج إلى معالجة لشرح الأشكال الخاصة للتأثيرات البيئية للدولة الاشتراكية؛ وذلك من خلال مناقشة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية وجمهورية الصين الشعبية وكوبا. بعد تجاوز دحض وجهات النظر السائدة، يتعمق الفصل في العمليات العامة المشتركة بين الدول الاشتراكية والظروف المختلفة التي نشأت فيها الدول الاشتراكية. ينظر المؤلف في السياقات التاريخية والدولية والفيزيائية الحيوية من خلال معاينة إرث التأثيرات الرأسمالية على البيئات التي تم فيها إنشاء الدول الاشتراكية. تعرض كل دراسة حالة مناقشة ما سار بشكل جيد وسيء ولماذا، مع استحضار مقارنات ذات تأثيرات بيئية مماثلة في الديمقراطيات الليبرالية، وخاصة الولايات المتحدة.

 صياغة تفسير بديل

 ينتقل المؤلف في المناقشة إلى تقييم التفسيرات في الفصل الخامس الذي يخصصه لشرح العلاقة بين اشتراكية الدولة والبيئة، أولاً من خلال معاينة وانتقاد وجهات النظر الأكثر شعبية ثم صياغة تفسير مادي تاريخي وديالكتيكي بديل. يتضمن الفصل مناقشات وأسئلة حول الطبيعة المتناقضة لاشتراكية الدولة فيما يتعلق ببناء مجتمع مستدام بيئياً وغير طبقي. فيما يتعلق بمشاكل التدهور الحيوي-الفيزيائي في الدول الاشتراكية، يشير المؤلف إلى أنه لم يكن هناك نقص في النظريات. والحجة العامة هي أن الدول الاشتراكية مدمرة في جوهرها من الناحية الفيزيائية الحيوية لأنها أنظمة استبدادية غير فاعلة اقتصادياً تقمع الطبيعة، وتفرض الرقابة على المعلومات المهمة، وتسيء إدارة استخدام الموارد، وتتعرض للخطر بشكل مزمن بسبب تضارب المصالح المؤسسية وتفتقر إلى الملكية الخاصة.

  يعلق المؤلف بالقول: المشكلة الرئيسية، بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في البلدان الرأسمالية مثلي، هي استخدامات اشتراكية الدولة لإخافة الناس بعيداً عن الاشتراكية أو الشيوعية بشكل عام وصرف الانتباه عن الأهوال التاريخية والحالية للمجتمعات الرأسمالية، سواء في الديمقراطية الليبرالية أو قاذوراتها الاستبدادية. تتمثل المشكلة الطبيعية في معاملة اشتراكية الدولة على أنها غير قابلة للإصلاح، كما لو كانت خالية تماماً من الإمكانات الإيجابية من خلال النضالات من الداخل.

ويضيف: ما يجب فعله بدلاً من ذلك هو إعادة النظر والتعلم من الدول الاشتراكية من أجل البناء على نقاط قوتها والتغلب على جوانبها الفظيعة أو استباقها. تتمثل إحدى طرق البدء في القيام بذلك في تمييز العوامل السببية المشتركة للدول الاشتراكية التي أدت بها إلى بعض الحلقات المدمرة بيئياً. يمكن عزو العديد من العوامل السببية المترابطة إلى السياق الأوسع للاقتصاد العالمي الرأسمالي؛ الترابط بين الدول الاشتراكية والقوى الرأسمالية، إن لم يكن القوى الاستعمارية السابقة؛ والصراعات الاجتماعية الداخلية الموجودة مسبقاً والحديثة، بما في ذلك الصراعات الطبقية. تتحد هذه العمليات الثلاث لتخلق تناقضات شاملة يجب أن يواجهها إلى حد كبير أي تشكيل اشتراكي حالي: بناء الأسس لمجتمع لا طبقي وخالٍ من الدولة في المستقبل وترسيخ دفاعات لصد القوى الرأسمالية والبقاء داخل عالم رأسمالي الاقتصاد، مع جلب الرفاه المادي الكافي للجميع بأقل شكل مضر للبيئة. تتضمن معالجة هذه التناقضات شكلين من النضالات المترابطة لكنهما مختلفان: أحدهما اجتماعي والآخر حيوي – فيزيائي. لقد جسدت الدول الاشتراكية، بكل عيوبها، هذا النضال المشترك. لا تزال تقدم الكثير ليس فقط من حيث ما يجب منعه، لكن أيضاً من حيث إمكانات التغلب على العلاقات الرأسمالية بطرق مستدامة بيئياً.


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version