كتب: المحرر السياسي
تطرح بيونغ يانغ الكثير من الأسئلة المحيّرة على زعماء الغرب، سواء من حيث الأهداف التي تكمن وراء سلسلة اختبارات الصواريخ، أو من حيث حجم قدراتها، لكن الجديد في الأمر هو توقيت هذه التجارب وتكرارها في الآونة الأخيرة، وربما ربطها بما يجري على الساحة الدولية من تصعيد.
أعلنت كوريا الشمالية أنها أجرت اختباراً على قوة رأس حربي ضخم لصاروخ كروز في البحر الأصفر في إطار عمليات التطوير السريع للتقنيات العسكرية.
وكانت كوريا الشمالية أجرت في 24 يناير/ كانون الثاني الماضي، تجربة إطلاق صاروخ كروز استراتيجي جديد قادر على حمل رأس حربي نووي، يحمل اسم «بولهواسال-3-31» للمرة الأولى، كما أطلقت قبل أيام صواريخ كروز من غواصات قبالة الساحل الشرقي من الطراز نفسه.
ويحاول العالم مرة أخرى تحليل موقف زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون. فهل يعمل على وضع نظامه في مكانة تخوّله الاستفادة من احتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، أم هو الاستعداد لبدء الحرب؟
واعتاد مراقبو كوريا الشمالية، منذ فترة طويلة، على تصريحات كيم الدراماتيكية، واختباراته العسكرية، واستعراضه القوة. ولكن طرأ تغيير ما، في الأسابيع الأخيرة يثير شعوراً جديداً بالقلق.
ويؤكد روبرت كارلين، وسيغفريد هيكر، الباحثان المخضرمان في الأمن القومي الأمريكي المعروفان بحيادهما حيال التهديد الكوري الشمالي، أن كيم «اتخذ قراراً استراتيجياً بخوض الحرب».
وهذا التقييم المشؤوم أكثر إثارة للقلق، لأن العالم يواجه الآن صراعين عسكريين محتدمين، في أوكرانيا والشرق الأوسط، وكل منهما مرشح للتصعيد، وكلاهما يؤلب أعداء الغرب ضد حلفاء الولايات المتحدة. وربما تكون هذه التفاصيل هي اللغز وراء اتخاذ كيم خطوات تبدو كأنها مقدمة للحرب. وهذا يعني أن المخاطر قائمة فعلاً، وحقيقية.
فقد حذر كارلين وهيكر في مقال مثير من أن «الوضع في شبه الجزيرة الكورية أكثر خطورة مما كان عليه في أي وقت منذ أوائل يونيو/ حزيران 1950».
موقف جديد
وعلى مدى عقود من الزمن، كان لدى جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية هدفان واضحان. الأول هو إعادة التوحيد سلمياً مع الجنوب، والآخر هو تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. ويبدو أن كلاهما قد تلاشى.
فقد أنهى كيم للتوّ سياسة إعادة التوحيد السلمي، ووصف كوريا الجنوبية بأنها «العدو الرئيسي» لجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، وأمر بهدم نصب قوس التوحيد العملاق في بيونغ يانغ، الذي بناه والده، وحل الهيئات الحكومية المكلفة بإعادة التوحيد.
وتردّ كوريا الجنوبية بخطاب قوي بالقدر نفسه. ففي آخر اجتماع لمجلس الوزراء في سيول، قال الرئيس يون سوك يول: «إذا لجأت كوريا الشمالية للاستفزاز، فسوف نعاقبهم بأشد العقوبات».
ويبدو أن ما نسمعه ليس تهديد كيم المألوف. فقد طرأ تحول جذري على رؤيته، وربما توجهاته، وبات يرى أن استراتيجية السعي لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة قد فشلت. وتم التوصل إلى هذا الاستنتاج بعد قمتي 2018 و2019 مع الرئيس ترامب، آنذاك. ويقول المحللون إن الفشل في التوصل إلى اتفاق كان بمثابة إحراج (ربما لكليهما)، ولكنه كان صادماً للزعيم الكوري.
وفي عام 2021، حاولت إدارة بايدن استئناف المحادثات، وتعهدت بالموافقة على الاجتماع «في أي مكان وفي أي وقت ومن دون شروط مسبقة». وقد تجاهلت كوريا الشمالية المبادرات التي كررتها الولايات المتحدة، مؤخراً. ومع ذلك، أصدر كيم قانوناً في عام 2022 ينص على أنه «لا نزع للسلاح النووي، ولا مفاوضات، ولا ورقة مساومة للتجارة».
ولكن ما يحدث يتجاوز فشل المحادثات مع الولايات المتحدة. فقد طور كيم علاقة استراتيجية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث سافر إلى روسيا لعقد اجتماعات شخصية دافئة، وتتهمه دول الغرب بتوفير الأسلحة لتعزيز ترسانة روسيا المستنفدة في حربها ضد أوكرانيا. وينفي البلدان ذلك، لكن هناك أدلة على أن كوريا الشمالية أرسلت أكثر من مليون قطعة مدفعية، وتقول إدارة بايدن إن روسيا تستخدم صواريخ كورية شمالية متقدمة ضد أوكرانيا.
بماذا يفكر كيم؟
من المستحيل معرفة ما يفكر فيه كيم على وجه اليقين، لكن ليس هناك شك في أنه يحاول، على الأقل، خلق مشاكل إضافية للغرب المشغول بتورطه في حربين كبيرتين. ومع انشغال الولايات المتحدة بأزمات أخرى، فربما يراهن كيم على أن يده صارت العليا؛ وأن الولايات المتحدة ستكون أكثر ميلاً إلى تقديم التنازلات.
ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن حدوث أزمة عسكرية في شرق آسيا، بمشاركة كبار حلفاء الولايات المتحدة (كوريا الجنوبية وربما اليابان)، سيكون بمثابة نعمة لبوتين، حيث يصرف انتباه الغرب عن أوكرانيا تماماً، كما فعلت حرب الشرق الأوسط.
ومن الممكن أيضاً أن يحاول كيم تعزيز موقفه التفاوضي في ظل إدارة ترامب الجديدة المحتملة. وذكرت صحيفة «بوليتيكو» مؤخراً، أنه في حالة إعادة انتخابه، يخطط ترامب لعرض صفقة على كيم تتضمن رفع العقوبات الاقتصادية والسماح له بالاحتفاظ بأسلحته النووية، إذا قبل بتجميد البرنامج النووي. وقال ترامب إن القصة ملفقة، من دون أن ينكر التقرير كلياً. ولا يمكن تجاهل التحذير بشأن كوريا الشمالية، لذا ينبغي على الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان تحديث خططها.
فهل يبدأ كيم حرباً شاملة سوف يخسرها بكل تأكيد؟ الأمر الذي لا يرقى إليه الشك الآن هو أن كيم، الذي كانت علاقته الوحيدة ذات المغزى هي التقارب مع الصين، دخل الآن المدار الروسي. وقد زار وزير خارجيته موسكو للتو، وتقول وسائل الإعلام الكورية الشمالية إن بوتين سيزور بيونغ يانغ.
وفي تكرار لظروف الحرب الباردة، ينقسم العالم إلى معسكرات متنافسة، ولا يوجد صراع معزول تماماً عن الصراعات الأخرى. وتزيد الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط من خطر نشوب صراع كوري جديد، ما يزيد من المخاطر المحتملة التي يتعرض لها الجميع.