كتب: المحرر السياسي

قد يجد المراقبون صعوبة في تصور حلف شمال الأطلسي «الناتو»، من دون الولايات المتحدة. لكن في ظل التطورات المتلاحقة والعميقة التي يشهدها المسرح الجيوسياسي العالمي، تبدو كل الاحتمالات واردة.

صحيح أن إسقاطات الفشل في أوكرانيا أشاعت حالة من عدم الثقة بين أعضاء التحالف الغربي، مضافاً إليها تسارع خطوات التحول إلى عالم متعدد الأقطاب، وما ينجم عنه من تخلخل في المواقع والأدوار التي تلعبها القوى العظمى، كفيلة بزعزعة بنيان الحلف، إلا أن تهديد أكبر دولة فيه على لسان مرشح الرئاسة، دونالد ترامب، برفع مظلته عن الدول الأعضاء التي لا تمتثل لقرار زيادة إنفاقها الدفاعي حتى 2% من الناتج الإجمالي المحلي، يعتبر إعلاناً صريحاً عن تململ الأمريكيين من عبء حماية غيره، خاصة في أوروبا.

وهذه ليست قضية مستجدة،بل إنها موضع جدال طال أمده، وتتجدد إثارته في الموسم الانتخابي الحالي. فقد صرح أحد أبرز مستشاري دونالد ترامب، في مجال الأمن القومي، وهو كيث كيلوج، الجنرال المتقاعد وكبير الموظفين في مجلس الأمن القومي للرئيس السابق، بأنه سوف يسعى لإجراء تغييرات في حلف شمال الأطلسي إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، قد تؤدي إلى فقدان بعض الدول الأعضاء الحماية من أي هجوم خارجي.

وفي حال كانت هذه التصريحات انعكاساً مباشراً لبرنامج حملة ترامب الانتخابية، فلا بد أن تمثل صدى ناخبيه خاصة من الشباب من خريجي الجامعات الجدد الذين ارتفعت مؤشرات استيائهم من السياسات الخارجية الفاشلة.

فقد أكد كيلوج نقطة مفادها أنه إذا تقاعس أحد أعضاء الحلف، الذي يضم 31 دولة عن إنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، فسوف يدعم ترامب تجريد تلك الدولة من الحماية التي تكفلها المادة الخامسة من ميثاق الحلف.

ومعلوم أن تلك المادة تنص على أن أي هجوم على أحد أعضاء الحلف يُعتبر هجوماً على الجميع، وبالتالي يتعين على أعضاء الحلف الرد بشكل مناسب. ولعل هذا ما يغذي حرص العديد من الدول الأعضاء ذات الإمكانات الدفاعية المحدودة على الاحتماء بمظلة «الناتو» تحت أي شروط.

حلف متعدد المستويات

وقال كيلوج الذي عمل أيضاً مستشاراً للأمن القومي لنائب الرئيس السابق مايك بنس: «أرى أن التحالفات مهمة… لكن إذا كنت ستصبح جزءاً من حلف، يتعين عليك المساهمة في تمويله».

ويقترح مستشار ترامب «حلفاً متعدد المستويات»، حيث يتمتع بعض الأعضاء بحماية أكبر بناء على التزامهم بالمواد التأسيسية للحلف. وإضافة إلى فقدان الحماية بموجب المادة الخامسة، يقترح فرض عقوبات أخرى أقل شدة، مثل عدم الحصول على التدريب، أو العتاد المشترك، ويمنح الدول الأعضاء حرية الانسحاب من الحلف، وألا تعتبر الحماية التي توفرها المادة الخامسة من المسلّمات، في حال غياب احترام المادة الثالثة في ميثاقه.

وتنص المادة الثالثة على أنه يجب على الدول الأعضاء في حلف الأطلسي بذل الجهود المناسبة لتطوير قدراتها الدفاعية الفردية، غير أنها لا تنص على أنه يجب على الدول إنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. لكن الدول الأعضاء تعهدت في قمة عام 2014 في ويلز، بالتحرك نحو هذا الرقم في غضون عقد من الزمن.

ويقول الحلف إنه من المتوقع أن تحقق 18 دولة عضواً الهدف المتمثل في إنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي هذا العام على الدفاع، مقارنة مع 11 دولة في عام 2023. ومن بين الدول التي ينتظر أن تحقق هذا الهدف ألمانيا وفرنسا، أكبر قوتين اقتصاديتين في الاتحاد الأوروبي.

وكان طبيعياً أن يسارع الرئيس، جو بايدن، للرد على مثل هذه التصريحات التي تعتبر مادة ثمينة في بيئة انتخابية ساخنة يتبادل فيها المرشحان الرئيسيان، بايدن وترامب، الاتهامات وحتى الشتائم.

كما سارع عدد من المسؤولين الغربيين البارزين للتعبير عن أسفهم حيال ما صدر عن كيلوج، حيث اقترح في اجتماع مطلع الأسبوع، أنه لن يدافع عن أعضاء حلف شمال الأطلسي إذا لم ينفقوا ما يكفي على الدفاع، بل إنه سوف يشجع روسيا على مهاجمتهم. وقال إنه إذا فاز ترامب، فمن المرجح أن يقترح عقد اجتماع للحلف في يونيو/ حزيران 2025 لمناقشة خطط المستقبل.

وفي أواخر الشهر الماضي، سافر ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، إلى الولايات المتحدة في زيارة استهدفت في جزء منها إقناع معسكر ترامب بالبقاء في الحلف ودعم أوكرانيا. وقال «لقد عملت معه – يعني ترامب- لمدة أربع سنوات، واستمعت إليه بعناية لأن الانتقادات الرئيسية كانت تتعلق بإنفاق حلفاء الناتو القليل جداً. وقد تم نقل الرسالة عبر التحالف في أوروبا وكندا».

وأيد السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام، حديث الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عن حلف شمال الأطلسي، وقال إن الدول التي ترفض الامتثال لمتطلبات رفع الإنفاق الدفاعي يجب استبعادها من «الناتو».

وبعد أيام من تصريحات الرئيس الأمريكي بشأن حلف الأطلسي، بدأ الزعماء الأوروبيون، في تبنّي نهج يحظى باستحسان دونالد ترامب، وأنصاره من الحزب الجمهوري، بعد أن بات قاب قوسين، أو أدنى، من الترشح للمنافسة على المكتب البيضاوي.

وألقت تصريحات ترامب بظلالها على مؤتمر ميونخ للأمن الذي يعتبر غالباً مقياساً لمتانة العلاقات الأمريكية الأوروبية. وتنتاب الزعماء الأوروبيين حالة من القلق لا تتعلق بمستقبل حلف شمال الأطلسي فحسب، بل أيضاً إزاء تأخر حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 60 مليار دولار في الكونغرس الأمريكي.

وقال المستشار الألماني أولاف شولتز: «نحن الأوروبيين، علينا أن نولي اهتماماً أكبر لأمننا الآن وفي المستقبل، ولا شك في أن الاستعداد للقيام بذلك أمر عظيم للغاية».

وأكد رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، المرشح الأوفر حظاً لمنصب الأمين العام للحلف، أن الدول الأعضاء أصبحت أكثر جدية بشأن الدفاع؛ لأن ذلك يصب في مصلحتهم الخاصة، وليس بسبب تصريحات ترامب، ومواقفه الصريحة حيال العلاقات عبر الأطلسي التي يراها من منظور «أمريكا أولاً».

فهل يزيد ترامب في حال فوزه شروخ الحلف، ويدفعه باتجاه التفكك؟


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version