د. أحمد سيد أحمد *
للمرة الثانية، وفي أقلّ من شهرين، تقف إسرائيل في قفص العدالة الدولية. فبعد قرارات محكمة العدل الدولية في 26 يناير/ كانون الثاني الماضي، التي تطالبها باتخاذ إجراءات احترازية فورية بمنع جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة، انعقدت محكمة العدل الدولية من 19-26 فبراير/ شباط، للاستماع إلى مرافعات أكثر من 56 دولة، ومنظمة دولية، بشأن عواقب وتداعيات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة طلبت من محكمة العدل الدولية في عام 2022، رأياً استشارياً بخصوص استمرار الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية.
ورغم أن فتوى محكمة العدل الدولية، أو رأيها الاستشاري، غير ملزم، على خلاف قرارات المحكمة الملزمة، خاصة المتعلقة بمنع جرائم الإبادة الجماعية، إلا أن نظر محكمة العدل الدولية في عواقب الاحتلال على الفلسطينيين يمثل أهمية كبيرة، وله تداعيات مهمة.
إن نظر المحكمة في مضمون الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا بشأن قيام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع، غزة منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على القطاع في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى جانب نظر المحكمة في الرأي الاستشاري الذي طلبته الجمعية العامة بشأن تبعات الاحتلال، يعكس أن إسرائيل الآن باتت في قفص العدالة الدولية، وأنها ستواجه المحاسبة والعقاب القانوني الدولي على جرائهما في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليس بعد عملية طوفان الأقصى الأخيرة فقط، وإنما خلال 75 عاماً من الاحتلال، بعد أن كانت في منأى عن العقاب والمحاسبة، وتعتبر نفسها فوق كل القوانين الدولية، بسبب المظلة الحمائية الأمريكية، سواء في مجلس الأمن عبر استخدام «الفيتو» ضد أي قرار يدين الاعتداءات الإسرائيلية، أو لا يتوافق مع مصالحها، أو من خلال منع محاكمتها أمام المحاكم الدولية خاصة المحكمة الجنائية الدولية. وهذه الحماية الأمريكية شجعت إسرائيل على الاستمرار في ممارسة كل أشكال العدوان ضد الشعب الفلسطيني، وتحدي المجتمع الدولي، ورفض تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، خاصة قرارات مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة، التي تدين إسرائيل وعدوانها على الفلسطينيين.
كما أن الرأي الاستشاري يفتح الباب على مصراعيه أمام بدء محاكمة إسرائيل ومحاسبة المسؤولين فيها عن الجرائم ضد الفلسطينيين، خاصة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك أمام المحاكم الوطنية للعديد من دول العالم التي يسمح قضاؤها بالنظر في دعاوى جرائم الإبادة الجماعية والانتهاكات ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وكلها تنطبق على ما تقوم به إسرائيل من جرائم ضد الفلسطينيين.
عزلة دولية لإسرائيل
إن مرافعة 56 دولة ومنظمة دولية أمام محكمة العدل في توضيح جرائم إسرائيل، وعدم شرعية الاحتلال، وتداعياته الكارثية على الشعب الفلسطيني، تعكس حالة الإجماع الدولي حول رفض الاحتلال الإسرائيلي، وضرورة إنهائه، باعتباره آخر احتلال في العالم، والذي يمثل نسخة مكررة من سياسة الفصل العنصري التي تعرضت لها جنوب إفريقيا في السابق، ونجح العالم في إسقاط هذا النظام العنصري. كما أنه يعكس العزلة الدولية المتزايدة التي تعيشها إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، الداعم الأكبر والأساسي لها، فالسياسة الأمريكية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وجرائمه ضد الفلسطينيين، بسبب الدعم والانحياز المطلق لإسرائيل. كما أن هذه المرافعات تعكس تزايد الدعم الدولي للفلسطينيين ولحقوقهم المشروعة، وحقهم في إنهاء الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة على حدود 4 يونيو/ حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية وحق عودة اللاجئين وعدم الاعتراف بشرعية ما تقوم به إسرائيل في فرض سياسة الأمر الواقع، من تهويد القدس وانتهاك المقدسات الدينية، بخاصة المسجد الأقصى، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، وإقامة المستعمرات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية، خصوصاً، في القدس والضفة الغربية، ورفض سياسة الحصار والتجويع ضد الشعب الفلسطيني ومنع الغذاء والدواء والكهرباء والمياه عن قطاع غزة، حيث استخدمت قوات الاحتلال سلاح الجوع لكسر الصمود الفلسطيني، وتنفيذ مخطط التهجير القسري للفلسطينيين إلى خارج القطاع، بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها لمسألة إنسانية، كذلك عدم شرعية الجدران العازلة التي أقامتها إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية، والقدس، بخاصة أن محكمة العدل الدولية أصدرت فتوى في عام 2004 بعدم شرعية الجدار العنصري، وطالبت بإزالته، وتعويض الفلسطينيين عن مصادرة وتقطيع أراضيهم.
جرائم إبادة
كشفت المرافعات التي قدمتها الدول المختلفة، والتي ضمت دولاً من كل قارات العالم المختلفة، عن الوجه القبيح للاحتلال وممارساته العدوانية ضد الفلسطينية خاصة في قطاع غزة، والتي تُعد جرائم إبادة جماعية، حيث استشهد أكثر من 30 ألف شخص أغلبيتهم الساحقة من النساء والأطفال، وآلاف المفقودين وأكثر من 70 ألف مصاب وجريح، وتدمير كامل لقطاع غزة حيث تم تدمير المباني السكنية والبنية الأساسية والمستشفيات، وخروج أغلبها عن الخدمة، كذلك المدارس ومقرات الأمم المتحدة، وعلى رأسها «الأونروا»، التي علقت الدول الغربية تمويلها لها، ما أدى إلى تفاقم المعاناة الإنسانية للفلسطينيين، كذلك منع دخول المساعدات الإنسانية، وبالتالي من لم يقتل بالقصف الإسرائيلي، يموت من الجوع والمرض، إضافة إلى اعتقال أكثر من ثمانية آلاف فلسطيني من دون محاكمة، وهي جرائم حرب وإبادة، دفعت الرئيس البرازيلي، دي سيلفا، إلى وصفها بأنها مثل «جرائم المحرقة» التي تعرض لها اليهود على يد النازي في ألمانيا، خلال الحرب العالمية الثانية.
ورغم الخلل في النظام الدولي، واستبعاد مجلس الأمن من محاسبة إسرائيل بسبب «الفيتو» الأمريكي، ورغم الحماية الأمريكية، إلا أن إسرائيل باتت في قفص العدالة الدولية، وأن ما تقوم به من جرائم عبر 75 عاماً لن يسقط بالتقادم، ولن يفرض الأمر الواقع، خاصة أن قرار مجلس الأمن الدولي 2334 عام 2016 أقر ببطلان كل ما قامت به إسرائيل من إجراءات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولذلك، فإن الرأي الاستشاري للمحكمة العدل الدولية المتوقع بشأن عدم شرعية الاحتلال، إضافة إلى عدم شرعية الجدار العنصري، والنظر في دعوى قيامها بجرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، يمثل إنصافاً للفلسطينيين وفتح الطريق أمام محاكمة الاحتلال.
* خبير العلاقات الدولية في الأهرام