تواصل الطاقة المتجددة فرض وجودها داخل مشهد الطاقة العالمي، كحل لتحقيق الحياد الكربوني، حيث يسعى العالم بخطى متسارعة للاستثمار بمشاريع الطاقة النظيفة، وخفض اعتماده على الوقود الأحفوري للحد من تغير المناخ.
وهذا التحوّل في نظام الطاقة، سيؤدي إلى ظهور خريطة جديدة، لتوزيع القوى المنتجة للطاقة في العالم، حيث تتجه الصين لتصبح القائد العالمي في مجال الطاقة النظيفة والمتجددة، وهو ما دفع ببعض المراقبين لوصفها بـ “أوبك” الطاقة المتجددة.
والتفوّق الصيني في مجال الطاقة النظيفة، أكده تقرير “الطاقة المتجددة 2023” الصادر عن وكالة الطاقة الدولية، والذي كشف أن الصين ستستحوذ على 56 بالمئة من الإضافات، التي ستشهدها قدرات الطاقة المتجددة في العالم، خلال الفترة الممتدة بين 2023 و2028، بمقدار 2060 غيغاواط، بينما ستضيف بقية دول العالم 1574 غيغاواط، منها 429 غيغاواط للاتحاد الأوروبي، و337 غيغاواط للولايات المتحدة.
ويؤكد تقرير “الطاقة المتجددة 2023” أن الصين ستعزز مكانتها باعتبارها عملاق الطاقة المتجددة في السنوات الخمس المقبلة، ويرجع ذلك في حدّ كبير منه، إلى السياسات الداعمة وتوافر التمويل، وهذا سيساهم في جعلها القوة المهيمنة في نشر الطاقة المتجددة في العالم.
إنزعاج أميركي من الأسعار الرخيصة
يبدو أن الولايات المتحدة بدأت تضيق ذرعاً من التقدم الذي تحققه الصين في مجال الطاقة المتجددة والنظيفة، حيث حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين منذ أيام، من أن الصين تتعامل مع الاقتصاد العالمي على أنه “أرض إغراق” لمنتجاتها الرخيصة من الطاقة النظيفة، مثل الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، مما يؤدي إلى انخفاض أسعار السوق، والضغط على الصناعة الخضراء في الولايات المتحدة.
وبحسب، CNBC فقد أعربت يلين خلال كلمة ألقتها في شركة سونيفا للطاقة الشمسية في جورجيا، عن قلقها إزاء التداعيات العالمية، الناجمة عن كل ما يرتبط بصناعة الطاقة في الصين، مشيرة إلى أن القدرة الفائضة التي تمتلكها بكين في هذا المجال، تشوه الأسعار العالمية وأنماط الإنتاج، وتضر الشركات والعمال الأميركيين، فضلاً عن الشركات والعمال في جميع أنحاء العالم.
وتخطط يلين لمواجهة نظرائها الصينيين بشأن هذه الممارسات خلال زيارتها المرتقبة للصين، لافتة إلى أن القدرة الفائضة للصين في مجال الطاقة المتجددة، ستكون القضية الرئيسية في مناقشاتها خلال رحلتها المقبلة للصين، حيث ستضغط على نظرائها هناك، لاتخاذ الخطوات اللازمة لمعالجة هذه القضية، وذلك في ظل التزام الرئيس بايدن ببذل ما في وسعه لحماية الصناعات الأميركية من المنافسة غير العادلة.
وتسلط تعليقات يلين الضوء على التوتر التجاري المستمر بين الولايات المتحدة والصين، واحتمال أن تصبح الطاقة النظيفة عنواناً جديداً للصراع القائم بينهما منذ فترة، والمرتبط بقطاع التكنولوجيا، ففي الوقت الذي تحاول فيه أميركا بناء صناعة طاقة نظيفة مزدهرة محلياً، تمتلك الصين فائضاً من منتجات ألواح الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم أيون، التي يمكن للصين أن تشحنها إلى دول أخرى بأسعار أرخص، وهذا يجعل من الصعب على الصناعات التحويلية الخضراء في الولايات المتحدة وأماكن أخرى أن تنافس.
وتقول جيسيكا عبيد الشريك المؤسس في New Energy Consult، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن هيمنة الصين على التكنولوجيات الخضراء، ليست بالشيء الجديد، فالصين ومنذ سنوات تنتج 75 بالمئة من وحدات الطاقة الشمسية الكهروضوئية، على مستوى العالم، مشيرة إلى أن الهيمنة الصينية في هذا المجال، تعود إلى قدرة البلاد على إنتاج الخلايا الشمسية بتكاليف منخفضة للغاية، مما جعل من الصعب على الشركات المصنعة في البلدان الأخرى، التنافس معها.
ووضحت عبيد أن تكلفة إنتاج الألواح الشمسية في الصين، تصل إلى أقل من 0.5 سنت لكل واط، وهي تكلفة منخفضة جداً مقارنة بباقي الدول، وذلك بسبب عدة عوامل منها انخفاض تكلفة المواد الخام، وانخفاض تكلفة العمالة، إضافة إلى عوامل مثل القيود المنخفضة على الأعمال التجارية، واللوائح التنظيمية المتساهلة والطلب المتزايد.
وأشارت إلى أن الصين لا تهيمن على أسواق الألواح الشمسية فحسب، بل أيضاً على تكنولوجيات أخرى بالغة الأهمية في مجال التحوّل إلى الطاقة النظيفة، مثل البطاريات والسيارات الكهربائية، وذلك بدعم من العوامل ذاتها، مع العلم أن هناك العديد من الشركات غير الصينية، التي تقوم بالبحث والتطوير في دول مثل الولايات المتحدة، ولكنها تصنع في الصين، بسبب انخفاض تكاليف التصنيع.
استغراب للتصريحات الأميركية
ترى عبيد أن وزيرة الخزانة الأميركية “مغلوطة” بتصريحاتها تجاه صناعة الطاقة المتجددة الصينية، فعلى المستوى العالمي، تحقق صناعة الطاقة النظيفة، تقدماً عبر حصولها على المزيد من رأس المال، وإنجازها للمزيد من التقدم التكنولوجي بتكاليف أقل، وهذا هو الاقتصاد العالمي وهكذا يعمل وهذا ما تفعله الصين، مشيرة إلى أن توسيع الأعمال التجارية يشكل جوهر الاقتصاد الأميركي، ولذلك فإن ما قالته الوزيرة الأميركية يدفع للتساؤل حول سبب انتقادها للصين، التي تفعل ما تفعله الولايات المتحدة.
وتوضح عبيد أن المنافسة القائمة بين الصين والولايات المتحدة، وحتى الاتحاد الأوروبي، على تكنولوجيات الطاقة النظيفة، كانت من العوامل التي دفعت أميركا، إلى إصدار “قانون الحد من التضخم” لعام 2022، كونه يوفر حوافز استثمارية وإعفاءات ضريبية لإنتاج الطاقة النظيفة، معتبرة أنه من الناحية النظرية، فإن هذا القانون من شأنه أن يدفع الاستثمارات ومشاريع البحث والتطوير نحو التكنولوجيات المنخفضة الكربون المصنوعة في الولايات المتحدة، ويقلل الاعتماد على بلدان أخرى، وخاصة الصين.
ومع ذلك فإن الشركات الصينية الموجودة في الولايات المتحدة ستستفيد أيضاً من هذا القانون، فأميركا فرضت في السنوات الماضية تعريفات جمركية على الواردات من الصين، مما دفع بعض الشركات الصينية إلى فتح صناعات في أميركا، وبالتالي، أصبح من الصعب للغاية على الفصل بين الشركات الأميركية، وتلك الموجودة على الأراضي الأميركية والتي ستستفيد من قانون خفض التضخم.
وترى عبيد أن التأثير العالمي للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين على التكنولوجيات النظيفة، سيؤدي إلى مزيد من التقدم على مستوى التكنولوجيا وانخفاض الأسعار.
وبحسب تقرير سابق صادر عن الوكالة الدولية للطاقة، فإن الدول يمكن أن تمارس نفوذها في النظام الجديد للطاقة، من خلال 3 طرق، الأولى عبر تصدير الكهرباء أو أنواع الوقود الأخضر، الثانية عبر التحكم في المواد الخام المستخدمة في الطاقة النظيفة، مثل الليثيوم والكوبالت، والطريقة الثالثة من خلال اكتساب ميزة في التكنولوجيا، مثل تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية.
وبالتالي من تتوافر لديه هذه الموارد، سيتميز بسهولة في عالم الطاقة المتجددة والنظيفة.
وقال المحلل الاقتصادي محمد سعد في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الصين وبحسب تقرير “الطاقة المتجددة 2023” الصادر عن وكالة الطاقة الدولية، ضاعفت من قدراتها التصنيعية للطاقة الشمسية الكهروضوئية خلال العام الماضي، مما خلق تخمة في العرض العالمي، حيث أدى ذلك إلى انخفاض أسعار الألواح الشمسية الصينية، بنسبة 50 بالمئة تقريباً، مما زاد من جاذبية المنتجات الصينية، مقارنة بالمنتجات الأميركية والأوروبية، ومن هنا يمكن فهم سبب الغضب الأميركي، من صناعة الطاقة المتجددة في الصين.
ويعبّر سعد عن أسفه لوجود احتمال كبير، في أن تصبح الطاقة النظيفة عنواناً جديداً للصراع الأميركي الصيني، وقد نشهد فرض قيود متبادلة في هذا المجال، في الأشهر والسنوات المقبلة، مشدداً على أن القلق الأميركي من منتجات الطاقة النظيفة الصينية غير مبرر، فقيود الولايات المتحدة الأميركية، لن تكون قادرة على مواجهة التمدد الصيني في عالم الطاقة النظيفة، إذ أن ما تفعله الصين يصب في النهاية لمصلحة المستهلك، فانخفاض أسعار منتجات تكنولوجيا الطاقة النظيفة، يساهم في انتشارها على نطاق واسع، ما يساعد في حماية البيئة، وبالتالي فإن الهدف الأميركي سيكون ضد مبدأ المنافسة الحرة، التي تؤدي في النهاية إلى تراجع أسعار التكنولوجيات الجديدة.
وشدد سعد على أنه من الصعب للغاية، إيقاف أو مواجهة التقدم الصيني في مجال الطاقة النظيفة، فما توصلت إليه بكين في هذا المجال، هو نتاج تبنيها لاستراتيجية مبكرة، حيث ضخت في السنوات الماضية استثمارات هائلة في هذا المجال، ما جعلها تنتج أكثر من 75 بالمئة من جميع الألواح الشمسية الكهروضوئية في العالم، وأكثر من نصف السيارات الكهربائية وثلث طاقة الرياح، كما أن الصين تعد أكبر منتج للبطاريات، وتتحكم في كثير من المواد الخام الضرورية، لسلاسل توريد التكنولوجيا النظيفة، مثل الكوبالت والمعادن الأرضية النادرة والبولي سيليكون.
ووضح المحلل الاقتصادي أن الصين تتمتع بالعديد من المزايا في صناعة الطاقة النظيفة، وهذه المزايا لا تتوفر في بلدان أخرى، فهي تستطيع أيضاً أن تمول المشاريع بسهولة أكبر، كما أنها تمنح التراخيص والموافقات المتعلقة باستثمارات الطاقة النظيفة بسرعة، وبعيداً عن البيروقراطية الموجودة في دول أوروبا وأميركا، كما أن قاعدة التصنيع في البلاد، تسمح أيضاً بتحقيق وفورات الحجم، في إنتاج الألواح الشمسية وتوربينات الرياح والبطاريات.