تواصل أسعار النحاس ارتفاعاتها الكبيرة خلال عام 2024، حيث تمكّن سعر الطن من هذا المعدن، من كسر حاجز الـ 10 آلاف دولار أميركي في نهاية شهر أبريل، قبل أن يعود أدراجه إلى مستوى قريب من 9730 دولار حالياً.
ورغم التراجع البسيط الذي سجّله النحاس في بداية شهر مايو 2024، إلا أن الأسعار الحالية تعتبر مرتفعة مقارنة بالأسعار التي تم تسجيلها في مايو 2023، والبالغة 8474 دولار للطن بحسب بيانات بورصة لندن للمعادن.
وتجمع آراء المراقبين على أن أسعار النحاس تتجه للصعود خلال السنوات المقبلة، وذلك نتيجة لتراكم عدة عوامل أبرزها التوقعات بارتفاع الطلب على هذا المعدن، واحتمال حدوث نقص في المعروض.
لماذا يحتاج العالم إلى مزيد من النحاس؟
النحاس هو المعدن الموصل الأكثر قدرة على نقل الحرارة أو الكهرباء بعد الفضة، ورغم أنه باهظ الثمن، إلا أن استخدام بدائل أرخص منه مثل الألومنيوم يعني التنازل عن الكفاءة في المنتجات.
ويمكنك العثور على النحاس في منتجات متنوعة مثل مكيفات الهواء والآت تحميص الخبز والرقائق الإلكترونية، وفي المتوسط يوجد حوالي 29 كيلوجراماً من النحاس في كل سيارة، وأكثر من 181 كيلوغراماً في المنازل النموذجية.
وتقول وكالة بلومبرغ إن العالم وضمن الجهود الرامية إلى الحد من انبعاثات الكربون، يحتاج إلى ملايين الأقدام من الأسلاك النحاسية، لبناء الشبكات المعقدة التي يمكنها التعامل مع الكهرباء، التي تنتجها مصادر الطاقة المتجددة، حيث تتطلب مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، المنتشرة غالباً على مساحات واسعة، قدراً أكبر من النحاس مقارنة بمحطات الطاقة التي تعمل بالفحم والغاز، كما أن السيارات الكهربائية تحتاج إلى ضعف كمية النحاس التي تستخدمها السيارات التي تعمل بالبنزين، وفقاً لجمعية النحاس الدولية.
ومن المرجح أن يستلزم تحقيق الأهداف المناخية للوصول الى صفر انبعاثات كربون خلال السنوات المقبلة، مضاعفة الطلب السنوي على النحاس، بحلول عام 2035 إلى 50 مليون طن متري، وفقاً لدراسة ممولة من الصناعة أجرتها شركة S&P Global، وحتى الدراسات الأكثر تحفظاً تتوقع نمو الطلب على النحاس بمقدار الثلث على مدى العقد المقبل، وذلك بدعم من زيادة الحكومات والشركات لاستثماراتهن في إزالة الكربون، في حين أنه ليس من المؤكد على الإطلاق أن هذا القدر من المعدن سيكون متاحاً في الأسواق.
أسباب النقص المتوقع في المعروض
رغم امكانية إخضاع النحاس الموجود في الأجهزة القديمة لعملية إعادة تدوير، إلا أن ذلك لن يكون كافياً لتغطية الطلب المتزايد على هذا المعدن، وبالتالي فإن البديل الوحيد للنقص المتوقع حصوله هو استخراج المزيد من النحاس من الأرض، وهي العملية التي تواجه العديد من العقبات ما يحول دون تعزيز الإنتاج بشكل ملموس.
ويعد النحاس بمثابة المحرك الكلاسيكي للاقتصاد العالمي، حيث ترتفع وتنخفض أسعاره والحاجة إليه بحسب حالة الإنتاج الصناعي العالمي، ولذلك يتوخى أصحاب المناجم الحذر بشأن زيادة طاقتهم الإنتاجية خوفاً من الوقوع في فخ انخفاض الطلب، تضاف إلى ذلك مشكلة أعمق وأكثر هيكلية، وهي أن استخراج النحاس أصبح أكثر صعوبة وأكثر تكلفة مع انخفاض درجات نوعية الخام، مما يعني أن هناك حاجة إلى استخراج المزيد من الصخور، لتأمين نفس الكمية من المعدن، كما أن الشروط البيئية المتزايدة والتي تتسبب بإرتفاع تكاليف تعدين النحاس، لا تشجع أصحاب المناجم على القيام بالمزيد من الاستثمارات.
وأدى الارتفاع الأخير في الأسعار إلى تساؤل المتداولين والمسؤولين التنفيذيين، عما إذا كان النحاس قد بدأ في الاستجابة لضغط العرض الذي يلوح في الأفق، إذ تشير تقديرات مجموعة جولدمان ساكس إلى أن الصناعة تحتاج إلى إنفاق 150 مليار دولار على مدى العقد المقبل لمعالجة النقص السنوي المتوقع في العرض والمقدر بـ 8 ملايين طن. ولتحفيز هذا النوع من الإنفاق، ستحتاج شركات التعدين إلى ارتفاع أسعار طن النحاس إلى مستويات قياسية، وفقاً لمجموعة ترافيجورا وبلاك روك.
كيف تتدافع الدول لتأمين الإمدادات؟
أصبح الوصول إلى النحاس ضرورة اقتصادية في هذا القرن، حيث تتدافع الحكومات لتأمين تلك الإمدادات المحدودة في المستقبل. وحالياً يتم استخراج معظم خام النحاس في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وتتم معالجته محلياً، ليصار بعد ذلك إلى تصديره إلى دول أخرى لصهره وإنتاج النحاس النقي.
وقد عوّضت الصين عن احتياطياتها المحلية الضعيفة من النحاس، عبر اقتناص المناجم في الخارج وبناء قدرة صهر هائلة محلياً. وقد تمكنت بكين من خلال فائض الطاقة الذي تمتلكه، من خفض رسوم صهر معدن النحاس، إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما دفع الولايات المتحدة وحلفاءها، الى الشعور بعدم الارتياح تجاه نفوذ الصين، على هذه الصناعة الاستراتيجية.
ومع وجود عدد كبير من المشترين لمادة النحاس، بدأت المجتمعات في مناطق التعدين تضغط على أصحاب المناجم، لبذل المزيد من الجهود للتخفيف من الأضرار البيئية الناتجة عن عملية استخراج هذا المعدن المهم.
ويتم استخراج النحاس من الخام باستخدام مواد كيميائية، يمكن أن تدخل إلى المياه الجوفية وتلوث الأراضي الزراعية، وتقتل الحياة البرية وتلوث مياه الشرب، حيث من المتوقع أن تنمو كمية النفايات الصخرية المتبقية بعد معالجة خام النحاس، من معدل سنوي قدره 4.3 مليار طن في عام 2020 إلى 16 مليار طن في عام 2050، وفقاً لباحثين في جامعة كوينزلاند في أستراليا.
وقدّر الباحثون أن التخزين الآمن لهذا المنتج، والذي يجب إدارته بعناية لتجنب الانهيارات الأرضية، قد يكلف الصناعة 1.6 تريليون دولار إضافية.
السعر المستهدف لطن النحاس
ويقول المحلل المالي جوزيف زغبي في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن مُعَدِّني النحاس، باتوا يعتمدون بشكل أكبر على المناجم القديمة ذات نوعية الخام المنخفضة، مقارنة بما كانت عليه في الماضي، وهذا تحدّ حقيقي للصناعة، حيث يحتاج المعدّنون إلى إنفاق أموال كبيرة لسد الفجوة المتوقعة في العرض، لافتاً إلى أن التقديرات تشير إلى حاجة الصناعة، لإنفاق 150 مليار دولار على مدى السنوات الثماني المقبلة، وبالتالي فإنه من أجل تحقيق هذا الهدف، سيحتاج المُعدنون لوصول سعر طن النحاس إلى 12 ألف دولار لتمويل الإنفاق على المناجم الجديدة مقارنة بـ 9730 دولار حالياً.
ويؤكد زغبي أن سوق النحاس تتمتع بإمدادات جيدة نسبياً في الوقت الحالي، ورغم ذلك فإن أسعار المعدن إرتفعت بنسبة 16 بالمئة حتى الآن خلال 2024، مقارنة بمستوى الأسعار المسجّل في 2023، علماً أن الطلب على النحاس فاتر نسبياً في الوقت الراهن، حيث يمكن تبرير هذه الزيادة بمراهنة المستثمرين على نقص معروض النحاس الذي يلوح في الأفق، والتوقعات بأن المُعدنين ليسوا على استعداد لتمويل وبناء ما يكفي من المشاريع الجديدة .
عوائق تواجه البحث عن النحاس
وبحسب زغبي فإن الأسباب الكامنة وراء نقص الاستثمار في المشاريع الحديثة للتنقيب عن النحاس، ليست جديدة، ولكن كلها تزداد سوءاً، إذ أصبح من الصعب العثور على خام عالي الجودة، وكذلك هناك مشكلة عدم حصول صغار المستكشفين على تمويل كاف، إضافة إلى ارتفاع تكلفة العمالة والمعدات، في حين تتزايد المقاومة الاجتماعية والبيئية لعمليات التعدين، لافتاً إلى أن إحدى التحديات الرئيسية الأخرى التي تواجه منتجي النحاس، هو أن بناء المناجم الجديدة يستغرق سنوات، بل وعقوداً في كثير من الأحيان، وبالتالي يجب احتساب قرارات القيام باستثمارات جديدة، بناءً على ما إذا كانت أسعار النحاس في المستقبل البعيد ستبرر هذا الاستثمار.
الاستحواذ بدلاً من المناجم الجديدة
ويكشف زغبي أن معدّني النحاس باتوا يفضلون القيام بعمليات استحواذ وشراء منافسيهم لتطوير أعمالهم، بدلاً من الاستثمار في مناجم جديدة، ففي إشارة إلى مدى صعوبة تطوير مشاريع نحاس جديدة، اقترحت شركة BHP Group Ltd التي تعد أكبر شركة تعدين في العالم، الاستحواذ على شركةAnglo American Plc، بصفقة تصل قيمتها إلى 39 مليار دولار أميركي، وذلك بهدف تنمية قدرات استخراج النحاس، والاستفادة من الطلب المتزايد عليه للسيارات الكهربائية والبنية التحتية لشبكات الكهرباء وغيرها من احتياجات التحوّل إلى الطاقة النظيفة، ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه لن يحدث فرقاً في تلبية العرض المتنامي عالمياً.
الحل السريع لمشكلة ارتفاع الأسعار
ويشدد زغبي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، على أنه من شأن النقص الحاد في معروض النحاس، أن يتسبب في ارتفاع أسعار بعض المنتجات الكهربائية والسيارات، ويبطىء الاعتماد على الشبكات الكهربائية التي تعمل بالطاقة المتجددة، كاشفاً أن الحل السريع لهذه المعضلة في الوقت الراهن، هو محاولة مصنعي تكنولوجيات الطاقة النظيفة، إيجاد طرق لاستخدام كميات أقل من النحاس في منتجاتهم، وفي الوقت عينه منح أصحاب المناجم حافزاً أكبر لزيادة الإنتاج، عبر تخفيف بعض القيود البيئية ومنحهم تمويلات أكبر لمشاريعهم، مع العلم أن تطوير منجم جديد يستغرق عدة سنوات، لذلك وحتى لو قامت شركات التعدين باستثمارات جديدة ضخمة، فإن الأمر سيستغرق حوالي عقد من الزمن، قبل أن يصبح انتاجُها كافياً، ولذلك فإن ارتفاع أسعار النحاس، يمكن اعتباره أمراً لا مفر منه في الوقت الراهن.
ويلفت زغبي إلى أن صناعة التعدين تتصارع مع لوائح تنظيمية متزايدة الصرامة، وإذا استمر هذا الوضع فإن الجهود الرامية إلى الحد من انبعاثات الكربون، ستتعرقل وستحتاج إلى إعادة جدولة، لناحية توقيت وصول الصناعات في العالم إلى مستوى صفر كربون.
#أسواق عالمية
#النحاس