د. أيمن سمير

رسم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خريطة طريق جديدة «للاستقلال الاستراتيجي لأوروبا» في خطابه أمام طلاب جامعة السوربون نهاية شهر إبريل الماضي، وذلك عندما تحدث عن فرص أوروبا لتكون «القطب الثالث» في العالم مع الولايات المتحدة والصين، وأن دول الاتحاد الأوروبي الذي تبلغ مساحته نحو 4 ملايين كلم، ويسكنه نحو 500 مليون شخص، ويتحدث 14 لغة رسمية، بات مؤهلاً لأول مرة منذ تأسيسه عام 1951 ليصبح «القطب الثالث» في العالم، وتحقيق نوع من التوازن بين «الثنائية الحادة» التي تمثلها في الوقت الحالي كلٌّ من واشنطن وبكين.

لكن اللافت أن الرئيس ماكرون لم يتحدث فقط عن «الاستقلال السياسي» لأوروبا؛ بل طرح استراتيجية متكاملة «للاستقلال الاقتصادي والعسكري» عن الولايات المتحدة الأمريكية والصين حتى إنه طرح وضع 300 سلاح نووي فرنسي ضمن «المعادلة الجديدة» لتعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوربي، وهو ما جعله هدفاً لاتهامات اليمين واليسار الفرنسي، وإنه بهذا يفرط في «السيادة النووية» لبلاده.

لكن ما لم يتحدث عنه الرئيس الفرنسي هو مدى قدرة أوروبا على حماية نفسها من الأخطار القائمة والطارئة في المديين القريب والمتوسط، فأوروبا التي لها 30 دولة من إجمالي 32 دولة أعضاء في حلف دول شمال الأطلسي «الناتو» ما زالت تعتمد عسكرياً على الولايات المتحدة التي سوف تنفق هذا العام 866 مليار دولار على الشؤون الدفاعية، بينما ما تزال نحو 12 دولة أوروبية من الدول الثلاثين في «حلف الناتو» لم تصل بعد إلى إنفاق نسبة 2 % من الناتج القومي الإجمالي على الشؤون الدفاعية مقارنة بإنفاق واشنطن نحو ب3.7 % من ناتجها القومي على الشؤون الدفاعية، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة حول مدى واقعية دعوة ماكرون «للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي»، وهل «ساكن البيت الأبيض» سواء كان الرئيس الحالي جو بايدن أم غريمه السياسي دونالد ترامب، سوف يقبل بتحول أوروبا إلى «قطب ثالث»؟ وإلى أي مدى تجد دعوة ماكرون قبولاً لدى شراكه وجيرانه في أوروبا، خاصة ما يتعلق بدول الجناح الشرقي من الاتحاد الأوروبي التي تثق في التعاون مع واشنطن أكثر من التعاون مع بروكسل؟

لم يتخلّ الرئيس ماكرون عن حلمه بأوروبا المستقلة «استراتيجياً» عن الولايات المتحدة والصين منذ انتخابه لأول مرة في مايو عام 2017، ولهذا انتقد ماكرون «حلف الناتو» ووصفه بأنه «مات إكلينيكياً» عام 2019، كما أنه صاحب الدعوة لتأسيس «جيش أوروبي موحد»، ودعم بكل ما يملك تأسيس «قوة أوروبية للتدخل السريع»، ورغم تخلّيه مؤقتاً عن تلك الأفكار إلا أن احتمالية عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض مرة أخرى في انتخابات 5 نوفمبر القادم شجعت الرئيس ماكرون على طرح هذه الأفكار من جديد، حيث سبق له طرحها في عهد دونالد ترامب الذي كان له خلافات شديدة مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وفرض حواجز جمركية على بضائع أوروبية كثيرة منها السيارات الألمانية والعطور الفرنسية.

ويعمل الرئيس الفرنسي على الوصول إلى عصر جديد من «السيادة الأوروبية والأمن الاقتصادي» تتمكن خلاله أوروبا من «اختيار شركائها، وتحديد مصيرها بدلاً من أن تكون مجرد شاهد على التطورات الدراماتيكية لهذا العالم»، وهو ما يعني أن أوروبا عليها وضع القواعد وليس تلقيها من الخارج، وهذا يتحقق عبر سلسلة من المبادئ والمحددات والثوابت هي التعاون مع الشركاء، والقدرة على المنافسة، واعتماد سياسة صناعية مبدعة ومبتكره، ومبدأ التعامل بالمثل، ولهذا تقوم الرؤية الجديدة للرئيس ماكرون على مجموعة من الخطوات وهي:

  • أولاً: صياغة استراتيجية دفاعية أوروبية

يشترط أن تكون هذه الاستراتيجية «ذات مصداقية حتى لا« تموت أوروبا» أو«تتراجع» أمام القوى العظمى الأخرى.

وتبدأ خشية ماكرون على أوروبا في وضعها الراهن من«ضعف رد الفعل» الأوروبي والعالمي على انتشار السلاح التقليدي والنووي، فهو يرى أن سباق التسلح النووي والتقليدي في العالم ليس في صالح أوروبا، وأنه ليس عليها فقط أن تغيّر نهجها في التعامل مع مثل هذه التحديات، بل عليها أيضاً «قيادة العالم» نحو المقاربة التي ترغب فيها.

  • ثانياً:«فك الارتباط مع واشنطن»

ينبع «الاستقلال الاستراتيجي» لأوروبا من«فك الارتباط» مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويتحقق هذا الهدف من وجهة نظر باريس عندما تكون أوروبا قوية وقادرة على «فرض احترامها وضمان أمنها»، وبخلاف ذلك لن تستطيع أوروبا البقاء «ككتلة» سياسية واقتصادية، ويمكن أن تتعرض«للموت» بحسب وصف ماكرون نفسه، وأن مستقبل القارة يتوقف على خيارات الأوروبيين، لكن هذه الاختيارات يجب أن تتخذها أوروبا الآن، لأنه بعد عقد زمني واحد سوف تكون أوروبا أمام خيارين وهما«الضعف أو التراجع»، فعلى سبيل المثال يرى ماكرون ومن يدعمون فكرته أنّ هناك خطراً بالغاً يتمثل في تراجع الاقتصاد الأوروبي مقارنة بالاقتصادين الأمريكي والصيني.

  • ثالثاً:«نموذج جديد للدفاع»

وهذا النموذج سوف يعتمد بشكل رئيسي على« الدفاع الصاروخي الموحد» في ظل تقديرات أوروبية تقول إن أوروبا تحتاج إلى دعم للدفاع الجوي، وقدرة أكبر على«قصف الأعداء» بصواريخ بعيدة المدى حتى تصل إلى ما يسمى «بالأعداء غير المقيدين» الذين لا يلتزمون بالاتفاقيات والمواثيق الدولية، بالإضافة إلى تخوف أوروبا في الفترة الأخيرة من خطورة «الجماعات ما دون الدولة» مثل الميليشيات والجماعات الإرهابية التي يمكن أن تملك طائرات مسيّرة أو أنظمة بحرية غير مأهولة، وكل ذلك يفرض على أوروبا تغيير عقيدتها في« الدفاع الجوي» عبر وجود« نظام موحد للدفاع الصاروخي» أو ما يطلق عليه «درع للدفاع الصاروخي»، ويمكن أن يتحقق هذا عبر الشراكة مع أطراف أخرى مثل حلف الناتو أو عبر المشتريات الأوروبية المشتركة من هذه الأسلحة والذخيرة، كما تعمل الرؤية الجديدة على توقيع اتفاقيات دفاعية ثنائية على غرار سعي فرنسا وهولندا للتوصل لاتفاقية دفاع مشترك قبل نهاية العام الجاري.

  • رابعاً: 300 رأس نووي فرنسي

هو أول طرح من نوعه يضع الأسلحة النووية الفرنسية ضمن معادلة الدفاع الأوروبي، فقبل ذلك كان نحو 180 سلاح نووي بريطانياً مع الأسلحة النووية الفرنسية، بالإضافة للرؤوس النووية الأمريكية التي تنتشر في أوروبا يشكلون معاً«الضلع النووي» في معادلة الدفاع الأوروبية، لكن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي في 31 يناير 2020، وسعى ماكرون للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي باتت الأسلحة النووية الفرنسية هي«رأس الحربة» في رؤية الإليزيه حتى تكون أوروبا هي«القطب الثالث» عالمياً.

  • خامسا: الأمن السيبراني والفضائي

تعاني أوروبا منذ فترة طويلة الهجمات السيبرانية ليس فقط على القطاعات الحيوية المدنية مثل قرصنة أسرار الشركات؛ بل بالتدخل السيبراني في الانتخابات الأوروبية، وتخشى أوروبا من هجمات سيبرانية تؤثر في عمل المفاعلات النووية أو الشبكة الأوروبية الموحدة للغاز والكهرباء، ولهذا تنظر أوروبا لوجود«درع سيبرانية» بأنه يشكل حاجة عاجلة لأمن وازدهار أوروبا خلال العقود القادمة، كما أن أوروبا يجب أن تكون في المقدمة عندما يتعلق الأمر بالقدرات الفضائية لارتباط الأمن القومي الأوروبي بما يجري في الفضاء، وحتى لا يتراجع الحضور الأوروبي خلف قوى عالمية أخرى عندما يتعلق الأمر باكتشاف الفضاء أو الاستفادة منه.

  • سادساً: الاستقلال عن أمريكا والصين

تقوم رؤية باريس على ضرورة أن يكون للأوروبيين رؤيتهم الخاصة بتأجيل أو وقف أي صراع أمريكي صيني محتمل حول تايوان، ودائماً ما يتحدث الرئيس الفرنسي عن مصالح أوروبا مع الصين منها حجم التجارة السنوي بين الاتحاد الأوروبي والتنين الصيني الذي يصل لنحو 960 مليار دولار سنوياً، كما أن المنتجات الصينية في غاية الأهمية للمصانع الأوروبية، في ذات الوقت يخشى الرئيس ماكرون من دعم البيت الأبيض للمصانع الأمريكية، خاصة ما يتعلق بأسعار الطاقة، الأمر الذي يمكن أن يدمر المصانع الأوروبية أو على الأقل انتقالها إلى الولايات المتحدة التي تعد أكبر منتج ومستهلك للطاقة في العالم، وهذا معناه أن أوروبا سوف تظل شريكة وحليفة للولايات المتحدة، لكنها سوف تواصل الحفاظ على مصالحها أيضاً مع الصين، ولهذا قالت الرئاسة الفرنسية أكثر من مرة إننا سنظل حلفاء للولايات المتحدة، ونتشارك القيم نفسها، ولدينا الكثير من المصالح الاقتصادية المشتركة، ولكن لا يجب أن نكون ضد الصين لأننا حلفاء للولايات المتحدة، ولا ينبغي علينا اتخاذ موقف في هذا التنافس القائم بين واشنطن وبكين، نريد بناء الاستقلال الأوروبي من أجل تقوية أوروبا».

  • سابعاً: عقيدة اقتصادية جديدة

والهدف منها تحقيق ما يسمى «بالسيادة الاقتصادية الأوروبية» القائمة على خلق فرص العمل، وتمويل النموذج الأوروبي في المسارين البيئي والاجتماعي خاصة في ظل تحدي «عسكرة الاقتصاد الأوروبي» في فترة ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ولا تشترط السيادة الاقتصادية الأوروبية «قطيعة اقتصادية» مع الآخرين والحلفاء أو حتى المنافسين، بل يمكن أن تنجح بالتعاون مع كل هؤلاء وفق الرؤية الفرنسية، لكن في وضعية تقرر فيها أوروبا ما يناسبها، وليس توفيق جزء من المصالح الأوربية بما يناسب قرارات الآخرين.

  • ثامناً: رفض تسليح الدولار

الاستقلال الاستراتيجي يقوم أيضاً على رفض «عسكرة وتسليح الدولار»، لأن الكثير من الشركات الأوروبية باتت تشكو من «تسليح واشنطن للدولار»، وهو ما يجبر الشركات الأوروبية على التخلي عن أعمالها، وقطع العلاقات مع دول ثالثة لها خلافات مع واشنطن التي تفرض عقوبات على كل الشركات بما فيها الشركات الأوروبية التي لا تلتزم بالعقوبات التي تفرضها وزارة الخزانة الأمريكية.

  • محاولات سابقة

حديث الرئيس ماكرون عن الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا حتى تصبح «القطب الثالث» سبقه العديد من الخطوات والمحاولات التي يمكن أن تشكل «منصة» لإطلاق مشروع السيادة الأوروبي الجديد.. ومن أبرز تلك المحاولات هي:

1 – «درع السماء»..

هو مشروع دعا إليه المستشار الألماني أولاف شولتز لحماية الأجواء الأوروبية عبر شراء منظومات دفاع جوية تعمل على المديات الثلاثة القصيرة والمتوسطة والبعيدة، لكن المقترح عليه خلافات مع فرنسا، حيث تركز ألمانيا على شراء أسلحة ومنظومات دفاع أمريكية وإسرائيلية، بينما تريد فرنسا شراء معدات أوروبية لدعم الصناعة العسكرية الأوروبية، وانضمت لدرع السماء نحو 20 دولة أوروبية منذ اقتراح شولتز في أغسطس 2022.

2 – الجيش الأوربي الموحّد..

هو مقترح سابق للرئيس ماكرون منذ عام 2019، ورغم عدم التوافق عليه إلا أن المخاطر الأمنية الجديدة في أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية دفعت الكثيرين للترحيب بهذه الفكرة منذ بداية العام الجاري.

3 – تشكيل قوة أوروبية للتدخل السريع..

ظهرت الحاجة لهذه القوة بعد الانسحاب الأمريكي الأحادي من أفغانستان، ودون التنسيق مع الاتحاد الأوروبي، وعدم وجود قوة أوروبية على الأرض لإجلاء المواطنين الأوروبيين، وصوتت دول الاتحاد الأوروبي لصالح تشكيل «فرقة التدخل السريع» في مارس 2022 في ظل الزخم الذي إضافته الحرب الروسية الأوكرانية لهذه الفكرة التي كانت مطروحة قبل الحرب، وسبق لأوروبا أن شكلت «عملية إريني» التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في 31 مارس 2020، وكانت تهدف لتطبيق قرار الأمم المتحدة بمنع وصول السلاح لأطراف الصراع في ليبيا، ومنها كذلك «قوة صوفيا البحرية» والتي تأسست في عام 2015، وكان هدفها منع الهجرة غير الشرعية من الساحل الإفريقي إلى الدول الأوروبية، ولم تجد «قوة إريني» أو «صوفيا» أي نجاح في مهمتهما.

***

المؤكد أن الرؤية الفرنسية حول «الاستقلال الاستراتيجي، والسيادة الأوروبية» تحريك للمياه الأوروبية التي عاشت في كنف الحماية والمظلة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن يظل موقف دول الجناح الشرقي في الاتحاد الأوروبي غير داعم لمثل تلك الأفكار الجديدة، ولهذا تحتاج برلين وباريس لإقناع هؤلاء حتى يتحقق الحلم وتصبح أوروبا «القطب الثالث» عالمياً.

[email protected]


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version