صارت الشراكة بين الصين وروسيا، التي تصور الكثيرون قبل بضع سنوات أنها لن تكون ممكنة، واقعاً جيوسياسياً، ما يُثير مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بشأن مواجهة خصمين عازمين على قلب النظام العالمي.

وكي ندرك حجم المخاطر الاقتصادية والسياسية التي تواجه الغرب نتيجة تعزيز العلاقات الروسية الصينية، علينا إلقاء نظرة على الماضي ومحاولة فهم أهداف هذا التحالف وكيف سيؤثّر في موازين القوى العظمى.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أخذ النظام الاقتصادي العالمي شكله الحالي بعد مؤتمر الأمم المتحدة الذي انعقد في «بريتون وودز» لضبط توازن العلاقات الاقتصادية العالمية، ثم في أغسطس آب 1971، حل الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الارتباط بين الذهب و الدولار ليعلن انهيار نظام بريتون وودز، وتبدأ حقبة جديدة تمنح الهيمنة لصاحب الاقتصاد الأقوى والعملة الأكثر تداولاً.

وعلى مدار عقود استطاعت أميركا السيطرة على النظام الاقتصادي العالمي بفضل الاتفاقيات التجارية التي ضمنت تبادل السلع الرئيسية باستخدام الدولار وخاصة النفط الخام، وفي المقابل اضطربت العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وجمهورية الصين الشعبية خلال الحرب الباردة (والتي كانت تنحدر في بعض الأحيان إلى صراع مسلح).

لكن في السنوات القليلة الماضية وخاصة في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ، أخذت العلاقات منعطفاً مختلفاً، وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتعزز تعاونهما المشترك على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

حرب أوكرانيا نقطة فارقة

تعمقت العلاقات الاقتصادية الصينية الروسية بفضل العقوبات الغربية ضد موسكو في أعقاب الحرب الأوكرانية التي بدأت في فبراير شباط 2022، كما أثبت الاقتصاد الروسي مرونته واستطاع التعافي من الانكماش في 2022، لينمو بنسبة 3.6 في المئة عام 2023، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.

وبينما نمت الصادرات الصينية إلى بقية العالم بنسبة 29 في المئة منذ عام 2021، ارتفعت الصادرات الصينية مع روسيا خلال الفترة ذاتها بأكثر من 121 في المئة، وفقاً لتقرير للمجلس الأطلسي الصادر في فبراير شباط 2024، وبذلك أصبحت بكين الآن مورداً رئيسياً للسلع الصناعية والاستهلاكية التي تدعم اقتصاد موسكو المحلي.

وبلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين 190 مليار دولار عام 2022، متجاوزاً الرقم القياسي السابق البالغ 147 مليار دولار عام 2021، وبحلول ديسمبر كانون الأول 2023، وصل حجم التجارة الصينية الروسية إلى 240.1 مليار دولار، بزيادة قدرها 26.3 في المئة على العام السابق، بحسب إدارة الجمارك الصينية.

كما تُعتبر روسيا مثالاً بارزاً على جهود التحول بعيداً عن الدولار لمكافحة آثار العقوبات الاقتصادية، خاصة بعدما جُمِدت أصول البنك المركزي الروسي لدى دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي وأستراليا، التي تُقدّر بنحو 260 مليار يورو (280 مليار دولار)، وأعلنت تلك الدول في مايو أيار 2024 السماح باستخدام عوائد الأصول الروسية لتسليح أوكرانيا، وهو ما وصفته موسكو بالسرقة.

وقال بوتين في فبراير شباط 2024، إن «الدولار الأميركي واليورو استحوذا على نحو 80 في المئة من معاملات التجارة الخارجية لروسيا في 2022، بينما شكّل الدولار ما يقرب من نصف المعاملات مع الدول الأخرى، إلّا أن تلك النسبة انخفضت حالياً إلى 13 في المئة فقط»، لافتاً إلى ارتفاع حصة اليوان من معاملات روسيا من ثلاثة في المئة فقط في 2022 إلى 34 في المئة حالياً، وأيضاً زادت حصة الروبل في معاملات روسيا الدولية إلى 34 في المئة.

تداعيات العقوبات الغربية على نصيب الدولار من المعاملات الروسية

ويرسل بوتين رسالة إلى العالم حول أولوياته وقوة علاقاته مع شي، باختيار الصين لتكون أول رحلة خارجية له منذ أدائه اليمين الدستورية في مايو أيار 2024 لفترة ولاية أخرى مدتها ست سنوات، إذ تعهد الرئيسان ببدء «حقبة جديدة» من الشراكة بين أقوى منافسين للولايات المتحدة.

زعزعة هيمنة الغرب.. هدف مشترك

بينما يسعى الكرملين إلى إعادة تشكيل القوى العظمى في أوروبا على المستوى القاري، تستهدف بكين تنفيذ مشروع أكثر طموحاً لتغيير أسس النظام العالمي، وإنهاء عصر الهيمنة الغربية في جميع أنحاء العالم إلى الأبد.

وقال ألكسندر دوغين المحلل السياسي الروسي، الذي تسميه بعض وسائل الإعلام الغربية «عقل بوتين»، «هذا لا يعني أننا نبني تحالفاً ضد أحد، فإذا قبل الغرب التعددية القطبية، فبوسعه أن يشارك في بناء هذا العالم الجديد، لكن إذا استمروا في المعارضة، سنضطر إلى المحاربة، ليس ضد الغرب، بل ضد الهيمنة».

وأضاف في مقابلة مع صحيفة غلوبال تايمز، التابعة للحكومة الصينية، «لقد دعوا الصين إلى السوق العالمية المفتوحة، ولكن عندما بدأت بالتفوق، فرضت بعض الدول الغربية الإجراءات الحمائية ضد الصين، إنهم يغيّرون القواعد لخدمة مصالحهم الخاصة»، مشيراً إلى أن هذا النهج من شأنه جذب الدول الأخرى للانضمام إلى «النظام متعدد الأقطاب».

وبالفعل برزت التكتلات التجارية في السنوات القليلة الماضية بقيادة روسيا والصين داعية للتخلص من هيمنة الدولار لصالح التجارة باستخدام العملات المحلية، وعلى رأسها مجموعة البريكس، التي تضم الصين وروسيا والهند، وجنوب إفريقيا والبرازيل، فضلاً عن انضمام كل من مصر والسعودية والإمارات وإيران والأرجنتين وإثيوبيا إلى المجموعة في يناير كانون الثاني 2024.

وكشف أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي صدر مايو أيار 2024، انخفاض حصة الدولار في مدفوعات المعاملات التجارية بين الدول الشريكة للصين منذ أوائل عام 2022، وفي المقابل زادت حصة اليوان الصيني بأكثر من الضعف، من نحو أربعة في المئة إلى ثمانية في المئة.

وفي الربع الأخير من عام 2023، انخفضت حصة الدولار من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي العالمية إلى 58.4 في المئة مقارنة بنحو 70 في المئة منذ بداية الألفية، بدفعة من التنويع التدريجي لاحتياطات العملات الأجنبية بعيداً عن الدولار وجزئياً إلى عملات احتياطية غير تقليدية مثل الدولار الأسترالي والكندي.

ومع ذلك، سيعتمد مصير هذا التحول المنشود على مدى قوة واستمرارية الشراكة الصينية الروسية في منافسة القوى العظمى، وقدرتها على إقامة التحالفات عبر عالم متنافسٍ متزايد النمو.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version