لطالما اعتبرت صناعة التأمين في لبنان ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ولكن خلال السنوات الأخيرة عانت هذه الصناعة من مجموعة من التحديات الهائلة التي أثّرت سلباً على أعمالها ووضعتها تحت ضغط شديد.
فالتحديات المتراكمة التي بدأت بالأزمة المصرفية والاقتصادية التي ضربت لبنان في نهاية 2019، مروراً بمسلسل انهيار العملة المحلية الذي استمر قرابة 3 سنوات، وصولاً إلى أزمة عدم دفع مستحقات المتضررين من انفجار مرفأ بيروت، لعبت دوراً في دفع 3 شركات من معيدي التأمين إلى اتخاذ قرار الانسحاب من السوق اللبنانية في عام 2023.
وهذه الخطوة لم تكن مجرد قرار تجاري، بل كانت بمثابة رمز لتداعيات الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعصف بالدولة اللبنانية، ليضاف إليها في 2024 الآثار السلبية الناتجة عن الأعمال القتالية التي تشهدها البلاد على الحدود الجنوبية مع الجيش الإسرائيلي، وإمكان توسع هذه الأحداث لتشمل مختلف الأراضي اللبنانية، وهو ما وضع قطاع التأمين في لبنان تحت ضغوط متزايدة، مع تحوّل أولوية اللبنانيين إلى تأمين حاجاتهم الأساسية اليومية، من مأكل ومشرب ومسكن خوفاً من الأسوأ.
تراجع في أعداد المؤمّنين
ورغم الصعوبات التي تراكمت في وجه شركات التأمين في لبنان، إلا أن القسم الأكبر منها تمكن من تجنب مصير القطاع المصرفي اللبناني الذي أصيب بالشلل، حيث استمرت هذه الشركات في القيام بالتزاماتها وتقديم خدماتها، في ظل التراجع المستمر في أعداد المؤمّنين ووسط التحوّل في توجهاتهم، فتراجع القدرة الشرائية للبنانيين دفعهم للجوء إلى خيارات تأمينية أرخص سعراً من السابق، فقد استبدل الأفراد بوالص التأمين للاستشفاء، فئة الدرجة الأولى بالدرجة الثانية أو الثالثة. أما فيما خص التأمين على السيارات، أصبح المؤمّنون يعتمدون بمعظمهم على التأمين ضد الغير، بعدما كانوا يعتمدون على التأمين الشامل لسياراتهم.
تقلص حجم أعمال شركات التأمين
ويقول رئيس لجنة مراقبة هيئات الضمان بالإنابة نديم حداد، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن قطاع التأمين في لبنان واجه تحديات ونكبات كبيرة ناتجة عن الأزمة الاقتصادية، والانهيار المالي منذ أواخر عام 2019، لتتفاقم هذه الأزمات بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020، ونتيجة لهذا التدهور تراجعت القدرة الشرائية للمواطنين، مما أدى إلى تقليص حجم أعمال الشركات، فالمواطن اللبناني بات يسعى بالدرجة الاولى إلى تأمين حاجاته الملحة، وهذا التغيير في السلوك اثّر على نمو قطاع التأمين فتراجعت اجمالي التعرفات من مليار و200 مليون دولار قبل الأزمة الى 900 مليون دولار بعدها، كاشفاً أن عدد شركات التأمين العاملة في لبنان يبلغ حالياً 46 شركة، في حين أن عدد المؤمّنين في التأمين الصحي يبلغ حوالي 300 ألف شخص، أما تأمينات السيارات الإلزامية فتتجاوز المليون مركبة.
تأثير محدود للحرب
ويلفت حداد إلى أنه كسائر القطاعات الاقتصادية، فقد تأثرت شركات التأمين بعدم الاستقرار الأمني الذي يشهده لبنان منذ شهر أكتوبر 2023، ولكن يبقى هذا التأثير ضمن إطار محدود، ما لم تتوسع الحرب الدائرة حالياً، مؤكداً أنه في الوقت الحالي لا يوجد أي ملامح لانسحابات جديدة من سوق التأمين في لبنان، بل على العكس إذ شهدت الفترة الماضية قيام العديد من المستثمرين بالسؤال عن إمكانية الاستثمار في شركات التأمين اللبنانية، ما يعتبر دليل عافية بالنسبة للأوضاع الاستثنائية التي تعيشها البلاد.
ويكشف حداد أن لجنة مراقبة هيئات الضمان في لبنان، وانطلاقاً من دورها في مواكبة التحولات والأزمات والحرص على التطبيق المرن، للقوانين والمراسيم المتعلقة بالقطاع التأميني، ومحاولة منها لتفادي التصادم وإيجاد الحلول الضرورية، الناتجة عن غياب القطاع المصرفي اللبناني، طالبت وشجّعت شركات التأمين على القيام بعمليات اندماج طوعية، تجنباً لأي اندماج قسري يمكن فرضه مستقبلاً، بسبب وجود حالات تعثر لدى بعض الشركات، لافتاً إلى أنه فيما يتعلق بتعويضات انفجار مرفأ بيروت فإن التسويات كانت سيدة الموقف وذلك نظراً لمعارضة معيدي التأمين تغطية المطالبات، حيث أنه وبالرغم من وجود بعض الملاحظات على هذه التسويات إلا أنها كانت الحل المتاح الوحيد في تلك المرحلة.
إشكالية تعويضات مرفأ بيروت
وبحسب حداد فقد قدّرت الجهات المختصة بتخمين الأضرار الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020، قيمة الأضرار بما يقارب المليار دولار أميركي، وفي حين تمت تغطية قيمة الأضرار المتعلقة بعقود التأمين على السيارات بشكل شبه كامل، وهي تشكل حوالي 10 في المئة من القيمة الإجمالية لحجم الأضرار، إلا أن القيمة المتبقية من التعويضات شهدت تسويات بين الشركات والمتضررين، تم على أساسها الدفع بناء على اتفاق بين طرفي العقد.
عناصر قوة القطاع التأميني في لبنان
ويؤكد حداد أنه رغم جميع الظروف التي مرّ بها لبنان في السنوات الأربع الأخيرة، تمكن القطاع التأميني من التعافي بشكل تدريجي وذلك بناء على عدة عوامل، أبرزها براغماتية قطاع التأمين اللبناني، الناتجة عن تراكم الخبرات لدى شركات التأمين، وقدرتها على التعايش مع الظروف الاستثنائية، التي تصبغ الحياة اليومية في لبنان، توجه المواطنون للتأمين الخاص، مع عدم قدرة المؤسسات الضامنة الرسمية اللبنانية على تقديم خدماتها خصوصاً في الطبابة والاستشفاء، بسبب تآكل قيمة الليرة اللبنانية، في حين ساهمت خطوة انتقال شركات التأمين اللبنانية تدريجياً الى استيفاء التعريفات بالدولار الاميركي، بامتصاص الصدمة الناتجة عن الانهيار المالي وتخفيف وقعها على المؤمّنين.
من جهتها تقول الكاتبة الاقتصادية محاسن مُرسل في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الشعب اللبناني لا يزال متمسكاً بخيار التأمين وخصوصاً في المجال الصحي، فبوالص التأمين على الصحّة لا تزال الأكثر طلباً، حيث أنه في ظل الارتفاع الكبير في فواتير الاستشفاء وضعف الإمكانات التي توفرها المؤسسات الضامنة الرسمية، بات اللبناني يفضل دفع كلفة بوالص التأمين الصحية ما يمنحه بعضاً من الطمأنينة وهذا التوجه يشمل أيضاً الخدمات التأمينية المرتبطة بالسيارات.
وشددت مُرسل على أن الإنهيار الاقتصادي والفوضى في أسعار الصرف الذين عانى منهما لبنان منذ نهاية 2019 وحتى عام 2023 أثّرا سلباً على كفاءة وفعالية بعض الخدمات التأمينية المقدمة، شأنها شأن معظم الخدمات التي كانت متوفرة في لبنان خلال تلك الفترة، فما مر به لبنان ليس بالأمر السهل، مشيرة إلى أن الإيجابية تمثلت بصمود قطاع التأمين واستعادته لقدراته خصوصاً في 2024، فاتجاه معظم شركات التأمين لإستيفاء رسومها بالدولار الأميركي كان عاملاً حاسماً في نقل هذا القطاع على بر الأمان، فما كان يحصل خلال مرحلة انهيار العملة اللبنانية تسبب بخسائر ضخمة للشركات التي كانت تُحصّل إيراداتها بالعملة المحلية.
وترى مُرسل أن قطاع التأمين في لبنان يتطلب الكثير من العناية المركزة، فهذا القطاع يعتبر عنصراً حيوياً في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويساهم في بناء اقتصادات قوية ومستدامة ويقدم حماية مالية للأفراد والشركات ضد المخاطر المحتملة مثل الأمراض، الحوادث، الكوارث الطبيعية والخسائر المادية، مشددة على أن قطاع التأمين في لبنان ليس قطاعاً محلياً فحسب، بل يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع مظلات التأمين الدولية، حيث من الواجب مواكبة عمل هذا القطاع بتعديلات تتماشى مع القوانين والمستجدات في الأسواق العالمية.
#لبنان
#اقتصاد عربي