وعلى أن المجاهرة بإعلان النصر، كان متوقعًا من قبل قاعدة حزب الله الشعبية، والشخصيات الإعلامية التي تدور في فلكه، لكن ذلك كان غير متوقع من الحزب نفسه، وبهذه الفجاجة.

ذاك أن الضربات التي تلقاها الحزب بشكل متلاحق منذ “ثلاثاء البيجر” الذي دشن تصعيد القتال في 17 سبتمبر مرورًا باغتيال كبار قادته بمن فيهم حسن نصر الله وهاشم صفي الدين ونبيل قاووق وإبراهيم عقيل ومحمد عفيف، وميدانياً كان الجيش الإسرائيلي يقضم القرى والبلدات جنوبي لبنان، حتى وصل إلى بلدة شمع بعمق 6 كيلومترات عن الحدود، كما طوّق الناقورة والبياضة والخيام وما ترافق مع ذلك من تدمير هائل في حواضره، وبناه التحتية وقبل ذلك كله الفاتورة البشرية المرتفعة للغارات الإسرائيلية، وما تلاه من ترجمة إسرائيلية للمنجزات التكتيكية إلى محصلات استراتيجية في بنود اتفاق إطلاق النار، الذي بدا كوثيقة استسلام أقرّ بها حزب الله.

ثم إن عدم انتصار حزب الله، إذا أردنا تجنب استخدام مصطلح هزيمته، جليّ على نحو يكاد ينطق، فالحزب بدأ الحرب في 8 أكتوبر تحت عنوان واحد أوحد، وهو وقف الحرب في غزة، وها هو قد رضخ لإيقافها بشروط قاسية، فيما الدبابات الإسرائيلية لا تزال تواصل مخر رمال غزة، وسلاح الجو يقصف مدنها على مدار الساعة.

هذه المعطيات كلّها، أوحت أن الحزب سيحتشم في بيانه الأول على الأقل حيال الزهو بما يعتقد أنها منجزاته، ويتمنع كليًا هذه المرة عن ادعاء الانتصار، كما دأب على الفعل في كل معركة خاضها سواء أمام إسرائيل أو في سوريا وفي كل مكان قاتل فيه منذ تأسيسه على يد الحرس الثوري الإيراني عام 1982.

فلماذا دائمًا ما يعلن حزب الله نصره، حتى لو كان أداؤه في الميدان لا يعكس شيئًا سوى الهزيمة؟!

 الأيديولوجيا

الدافع الأول أيديولوجي بحت، فحزب الله حزب ديني صرف، يقرن كل ممارساته السياسية والعسكرية بالمعتقدات الدينية، ولتوضيح ذلك، فإن الحزب يعتقد أنه لبى متطلبات عقيدته بمجرد أنه قام بما يقوم به، انطلاقًا من تلك العقيدة، وهذه الخاصية يلتقي بها حزب الله مع كثير من الجماعات المسلحة التي تحمل أيديولوجيات دينية متشددة في المنطقة، بحيث تعتبر موت عناصرها “استشهادًا” وبقاءهم أحياء “انتصارًا” وفي كل الحالات زادوا من رصيدهم في إقامة الواجبات الدينية، وبالتالي، فإن الحسابات العسكرية والسياسية المدنية إن صح التعبير، لا تدخل في حسابات هذه الجماعات، وعليه فإن الخسارة أو الهزيمة ليست احتمالاً مطروحًا في تقييمهم لنتائج نشاطهم العسكري والسياسي.

 “الإيغو” المتضخم

وفي إعلان النصر الذي لا تعكسه ميادين القتال، بُعد له علاقة بسيكولوجيا الجماعات الشمولية ذات “الإيغو” المتضخم، فلا يصح أن يهزم حزب الله، الميليشيا القائمة على السلاح، وكل نشاطاتها السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية والاجتماعية قائمة على حماية هذا السلاح والترويج له وتعزيز أهميته بين مناصري الحزب.

في مقال له بعنوان “الفاشية الأبدية”، نشر عام 1995، حدد الفيلسوف الإيطالي أومبرتو إيكو 14 سمة للفاشية، وكانت العاشرة تتحدث عن احتقار الضعف، فهذه الجماعات بمنظورها لا يمكن إلا أن تكون قوية، الضعف ليست مرادفة في قاموسها، لذلك سارع حزب الله إلى إعلان النصر؛ وهو والحق يقال، بارع في تأويل الأحداث، حيث لم تتردد دائرة الإعلاميين المقربة منه في الإشارة إلى تعهد الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من لبنان لتفسير الانتصار، فيما البقاء في الأراضي اللبنانية هدف لم يضعه الجيش الإسرائيلي أصلا خلال معركته، إنما وضعوه هم له، كما أثنوا على قدرة مقاتلي الحزب على الصمود في الميدان، وكأن الحزب أشعل هذه الجبهة، ليمارس تحقيق الصمود، وليس تحت عنوان إيقاف حرب غزة التي لم تتوقف.

رسالة إلى اللبنانيين

وأخيرًا، البُعد السياسي، البالغ الأهمية، وهنا الحديث بالذات على السياسة المحلية اللبنانية، يريد حزب الله أن يقطع الطريق على كل طرف سياسي لبناني يفكر في مطالبته بتسليم السلاح الذي يمنحه امتيازًا وتفوقًا لا يملكه أحد سواه، أو حتى مجرد المطالبة بعدم استخدام هذا السلاح تهديدًا وتلويحًا وبشكل مباشر في فرض رؤاه السياسية، وتعطيل الاستحقاقات الدستورية، وقد هزم الحزب أمام إسرائيل التي لطالما تذرّع بوجودها عند حدود لبنان الجنوبية، للبقاء مسلحًا.

وثمة أصوات لبنانية بدأت بالفعل بطرح تساؤلات على حزب الله من قبيل، إذا أذعنت لبند التراجع شمال الليطاني وتفكيك ترسانتك العسكرية في جنوب هذا الخط الجغرافي، ما المبرر من احتفاظك بهذا السلاح؟!

وبالمحصلة حتى لو رفع الحزب أمام إسرائيل كل ما لديه من رايات بيضاء مقرًّا بخسارته، سيستدير إلى اللبنانيين دون أن يهتزّ له جفن، ويرفع علامة النصر.


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version