خاصالعاصمة السورية دمشقتواجه سوريا تحديات جمة في مرحلة إعادة الإعمار بعد سقوط النظام السابق وتسببه في حرب لسنوات طويلة دمرت الاقتصاد الوطني وأثرت بعمق على كافة جوانب الحياة والبنية التحتية، مما خلق واقعاً معقداً يتطلب حلولاً استثنائية.ومع طي صفحة هذا النظام الذي افتقر إلى رؤية اقتصادية واضحة، يقف السوريون أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء وطنهم على أسس حديثة تسهم في تحقيق التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي.
إن الدمار الذي طال القطاعات الإنتاجية والتشريد الجماعي للسكان لا يجعل إعادة الإعمار مهمة سهلة، حيث تتطلب العملية استثمارات ضخمة تفوق قدرة الدولة وحدها. هذا الواقع يطرح أسئلة جوهرية حول كيفية تمويل إعادة البناء: هل ستعتمد سوريا على المساعدات الدولية والديون، أم ستبحث عن نماذج تمويل مبتكرة تضمن الاستدامة وتجنب الأعباء الثقيلة على الأجيال القادمة؟
ورغم إعلان صندوق النقد الدولي عن استعداده لدعم سوريا مالياً، إلا أن التجارب السابقة مع الدول الخارجة من أزمات مماثلة أثبتت أن الاعتماد المفرط على القروض الدولية قد يقيد حرية اتخاذ القرار الاقتصادي، ويثقل كاهل البلاد بالفوائد المرتفعة، بحسب خبراء اقتصاد.
في المقابل، تتمتع سوريا بثروات طبيعية هائلة غير مستغلة حتى الآن، مثل النفط، الغاز الطبيعي، الفوسفات، والمعادن، إلى جانب الأراضي الزراعية الواسعة، مما يوفر قاعدة صلبة لدعم جهود إعادة الإعمار وتنويع مصادر التمويل.
تجنب فخ الديون
أكد المستشار الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي، في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن تجنب الوقوع في فخ الديون بعد الدمار الهائل الذي شهدته سوريا ليس أمراً سهلاً، لكنه ممكن عبر مسارين رئيسيين: الأول يتمثل في عقد مؤتمر دولي للمانحين على غرار مشروع مارشال الذي ساهم في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والثاني عن طريق تشجيع الاستثمارات.
وأوضح الدكتور القاضي أن تحقيق التكامل بين هذين المسارين هو الخيار الأمثل لسوريا، إذ أن العديد من الدول مستعدة للمساهمة في مؤتمر للمانحين ودعم الاستثمار في البلاد.
وأضاف أن هناك صيغاً استثمارية مثل عقود الـ”بي أو تي”، التي تسمح للمستثمرين ببناء مشاريع تعود ملكيتها لاحقاً للحكومة السوريا بعد فترة زمنية محددة تتراوح بين 15 و20 عاماً. وأشار إلى أن هذا النوع من العقود يساعد في تحقيق التنمية دون زيادة الأعباء المالية على الدولة. إلا أن نجاح هذه الخطوة يتطلب وجود حكومة تكنوقراط قادرة على قيادة عملية إعادة الإعمار بكفاءة، إلى جانب رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، وهو شرط أساسي لجذب المستثمرين.
ثروات وطنية  
ورغم الدمار الكبير، تمتلك سوريا موارد طبيعية يمكن أن تسهم في دعم جهود إعادة الإعمار، من أبرزها:

النفط: تمتلك سوريا احتياطيات نفطية تُقدر بـ2.5 مليار برميل، بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 203 مليار دولار وفقاً لمتوسط أسعار النفط في عام 2024.
الغاز الطبيعي: يقدر احتياطي الغاز الطبيعي بـ8.5 تريليون قدم مكعبة، أي حوالي 0.1 بالمئة من الاحتياطي العالمي.
الفوسفات: تحتل سوريا المرتبة الخامسة عالمياً باحتياطي يقدر بـ1.7 مليار طن، مما يمثل فرصة كبيرة لتطوير قطاع التعدين.
المعادن: تمتلك سوريا 21 نوعاً من الخامات المعدنية المهمة، التي يمكن أن تكون أساساً لصناعات حيوية، منها الصناعات المرتبطة بتوليد الطاقة.
الثروات الزراعية: تتوفر حوالي 6.5 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، والتي يمكن أن تسهم في تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي.
ثروات الساحل السوري، يُقدر احتياطي الغاز الطبيعي بنحو 3.4 تريليون متر مكعب، واحتياطي النفط بـ1.7 مليار برميل وفقاً لمسح أجرته هيئة المسح الجيولوجي الأميركية في عام 2010.

استبعاد الديون الدولية
 على صعيد الموارد الذاتية، أكد المستشار الاقتصادي أن سوريا تمتلك إمكانيات لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجالات حيوية مثل القمح، الوقود، والخدمات الأساسية. إلا أن إعادة بناء المدن المدمرة يتطلب رؤية شاملة ومشروعاً متكاملاً يمكن من خلاله تحقيق نهضة اقتصادية شاملة خلال فترة زمنية قصيرة.
وشدد القاضي على أهمية استبعاد المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي من خطط التمويل، نظراً لشروطه القاسية وفوائده المرتفعة التي تتراوح بين 4.2 بالمئة و4.9 بالمئة. وبيّن أن تجارب هذه المؤسسات مع دول أخرى ليست مشجعة، مؤكداً أن سوريا يمكنها الاستفادة مستقبلا وفي ظروف مستقرة من وحدات السحب الخاصة التي تمتلكها، والتي تبلغ حوالي 293 مليون وحدة، فضلاً عن حدود اقتراض قصوى تتراوح بين 2 و4 مليارات دولار.
وفيما يتعلق بالهوية الاقتصادية لسوريا، أشار الدكتور القاضي إلى غياب هوية اقتصادية واضحة منذ تأسيس الكيان السوري عام 1920، وأشار إلى دراسة قام بها لعشرات الدساتير في العالم فيما يخص الهوية الاقتصادية وما أطلق عليه ” الدستور الاقتصادي السوري” واقترح سبعين مادة ينبغي إدراجها في الدستور السوري القادم كي تتحدد الهوية الاقتصادية السوريا ولا تكون عرضة لأهواء أي سلطة بل هي ملزمة للدولة السوريا وتضع سوريا على السكة الاقتصادية لتكون واحدة من الدول الصاعدة في العالم.
وأكد أن الحكومة المقبلة ستكون مطالبة بتحديد هذه الهوية بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة وجذب الاستثمارات الوطنية والدولية. واختتم بالتأكيد على أن نجاح عملية إعادة الإعمار يتطلب فريقاً متخصصاً يدير الموارد بكفاءة، ويضع خططاً استراتيجية تقي البلاد من الوقوع في فخ الديون.
السوريون يمتلكون قدرات استثنائية
من جانبه، أكد الباحث الاقتصادي المختص بالشأن السوري عصام تيزيني، أن اللجوء إلى الاستدانة من المؤسسات المالية الدولية، بما فيها صندوق النقد الدولي، ليس الخيار الأمثل لسوريا.
وأوضح تيزيني: “كمُطّلع على تجارب الدول التي لجأت إلى الاستدانة، أرى أن السوريين يمتلكون قدرات استثنائية تمكنهم من بناء اقتصادهم الوطني. وأكبر دليل على ذلك هو نجاح رجال الأعمال والصناعيين السوريين في أي مكان يحلون به حول العالم، حيث يسهمون في دعم الاقتصادات المحلية للدول التي يقيمون فيها. لذا، فإن بناء اقتصاد البلاد لا يتطلب الوقوع في فخ الديون، بل يحتاج إلى إدارة حكيمة ونزيهة قادرة على قيادة الاقتصاد السوري نحو التعافي.”
وأضاف: “الاقتصاد السوري يواجه اليوم تحديات عديدة، أبرزها الانتقال من اقتصاد قمعي تقوده شبكات النفوذ إلى اقتصاد حر يقوم على المنافسة. ورغم صعوبة هذا التحول، هناك تحديان عاجلان يجب التعامل معهما فوراً لتحقيق هذا الانتقال دون الحاجة إلى دعم مالي خارجي أو ديون.”
السماح لاقتصاد الظل النظيف بالنشاط
التحدي الأول، بحسب تيزيني، يتمثل في إخراج المستهلك السوري من حالة العجز الاستهلاكي إلى حالة القدرة الشرائية.
“هذا يتطلب تعليق العمل بجميع القوانين والقرارات الناظمة للتجارة والصناعة لمدة عام على الأقل، والسماح لاقتصاد الظل النظيف بالنشاط، بحيث يتمكن أي شخص يرغب في الإنتاج أو التجارة من العمل دون تعقيدات إدارية أو أعباء ضريبية، على أن يكتفي بالإعلان عن نشاطه لتجنب الفوضى. هذه الخطوة ستشجع المحبطين وأصحاب الطاقات الكامنة على المبادرة والمساهمة في تحسين دخلهم، ما يعزز قدرتهم الشرائية”، بحسب تعبيره.
وشدد على ضرورة وجود رقابة صارمة لضمان مكافحة الغش والتدليس، معتبراً أن هذه الإجراءات المؤقتة يمكن أن تفتح الباب أمام إعادة بناء الثقة وتحفيز النشاط الاقتصادي.
أما التحدي الثاني، فيكمن في ضرورة إحداث “ثورة تشريعية اقتصادية” من خلال تغيير شامل لكل القوانين الناظمة للنشاط الاقتصادي في سوريا. وأوضح الباحث المختص بالشأن السوري أن هذه الخطوة ضرورية لبناء اقتصاد نشط وفاعل يخدم المجتمع، يعزز دخل الأفراد، ويعيد للاقتصاد السوري مكانته التي طالما تميز بها تاريخياً.#سوريا#اقتصاد عربي


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version