هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة – الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

لست باقتصادي وما أنا بخبير مصرفي، لكن دافع الضرائب شأنه شأن المستهلك والمستثمر، يعلم أن قرار رفع الفائدة كما هو رفع أسعار أي من السلع أو الخدمات ليس بالقرار المفضل لأي سلطة حاكمة. فما بالك بالأمر عندما تكون سلطة “البنك المركزي الأمريكي” مستقلة كليا عن السلطة التنفيذية في بلاد العم السام. في مصر أطلقوا على الدولار اسم “المارد الأخضر” وهو بحق لا سيد له. لا يملك سيد البيت الأبيض ولا من تتربع على عرش رئاسة مجلس النواب (بيت الشعب) لا يملكا من أمر قرار “مجلس محافظي الاحتياطي الأمريكي” شيئا، حاله حال “المحكمة العليا” في أمريكا. السلطة القضائية والمالية تتمتعان بأعلى درجات الاستقلالية رغم الاستقطاب والتطاحن الحزبي بين الجمهوريين والديمقراطيين.

أما ماكينة الصحافة في أمريكا والعالم فما زالت منخرطة في حرب الاستنزاف الجارية منذ صعود نجم الرئيس السابق دونالد ترامب، قبل وبعد خروجه من البيت الأبيض. ما زالت “آلترا ماغا” (اختصارا لشعار حملة ترامب الانتخابية عام ٢٠١٦: لنجعل أمريكا عظيمة مجددا)، ما زالت -بحسب الرئيس جو بايدن- “أخطر الحركات السياسية المتطرفة في تاريخ أمريكا الحديث”. التصريح كان باتجاه المحكمة العليا التي توشك اتخاذ قرار يعيد تشريع الإجهاض إلى الولايات -محليا- خلافا لما تم اعتماده عام ١٩٧٣ حيث تم تشريعه فدراليا. (يقدر عدد ضحايا الإجهاض منذ ذلك التاريخ بثلاثة وستين مليونا.. وفقا للجنة الوطنية لحق الحياة).

تزامن “التسريب” الذي يعتبر جريمة كونه إفشاء لمطالعات سرية داخل أروقة المحكمة العليا المقتصرة على القضاة التسعة، تزامن مع إعلان “البنك المركزي الأمريكي” رفع أسعار الفائدة نصف نقطة بالمئة هي الأعلى منذ 22 سنة.

ليس سرا والأمر محل إجماع يتجاوز الأيدولوجيات السياسية والاقتصادية، بأن رفع الفائدة يأتي كخيار مر، كالترياق العلقم الذي يتعافى منه المريض قبل استفحال مرضه. المرض هو التضخم الأعلى منذ 40 عاما في أمريكا واستفحال المرض لا قدر الله هو الكساد الذي لا تحمد عقباه ويرتبط تاريخيا بشرور لا حصر لها منها الحروب، الهجرات، النزوح، الثورات والاضطراب الاجتماعي الذي يصل في كثير من الأحيان الى أمراض نفسية اجتماعية خطرة كالإدمان والرق الجنسي والاتجار بالبشر والأعضاء، والإرهاب، والجريمة المنظمة، والمروعة.

الجمهوريون سارعوا إلى انتقاد بايدن والحزب الديمقراطي قائلين بأن سياساته خاصة فيما يتعلق بملفات الطاقة والضرائب والإنفاق هي التي تسببت بالتضخم، فيما يرد الديمقراطيون بأن السبب هو سياسات ترامب ٢٠١٦-٢٠٢٠ وكوفيد التاسع عشر، وبوتين ٢٠٢٢ بمعنى حرب أوكرانيا وما تلاها من عقوبات واضطرابات عنيفة في قطاعي إنتاج ونقل الطاقة.

تبقى الأرقام “أصدق إنباء من الكتب” في عالم الاقتصاد. بين عشية وضحاها “قامت الدنيا ولم تقعد” في أسواق المال الأمريكية. الأربعاء أرباح قياسية والخميس خسائر قياسية أيضا. فإن عادت الأسواق واستقرت ونجح “البنك المركزي الأمريكي” في كبح التضخم أو تراجعه، يعزز بايدن من فرص بقاء مجلسي النواب والشيوخ بيدي حزبه مع الرئاسة، أما إن انفلت التضخم من عقاله وخيم كابوس الكساد على نوفمبر المقبل فإنه سيحسم معه نوفمبر ٢٠٢٤. لم يغفر الناخبون في أي بلد بالعالم وليس أمريكا وحدها لمن يمس مدخرات شيخوخته. وفي أمريكا التضخم لا يحرق تلك المدخرات فقط، وإنما يبدد حلم الشباب الأمريكي المقبل على الزواج أو الاستقرار حيث أول ما يتأثر به سعر الفائدة هو قروض العقارات، ذلك الحلم الأمريكي منذ خمسينيات القرن الماضي الذي تباهى به الشباب الأمريكي أمام الواقفين بعشرات الألوف في طوابير الإسكان في دول المعسكر الشرقي ومن دار في فلكه.

في عدد من الدول العربية من بينها السعودية والكويت والأردن، سرعان ما تجاوب البنك المركزي فيها مع قرار الاحتياطي الأمريكي، مما يدعو الجميع وبخاصة المؤثرين الحقيقيين وليس المسؤولين إلى التصدي لحملة توعية احترازيا، لتفادي وقوع أي من أعراض مرضي التضخم والكساد خاصة بعد كارثتي كورونا وأوكرانيا.

ثمة حاجة إلى العودة ربما إلى حكمة “جدودنا” الذين أبدعوا في ابتكار الحلول والتأقلم مع التحديات. ثمة حاجة إلى نهضة روحية أخلاقية فكرية قبل أن تكون اجتماعية اقتصادية سياسية. عالم الأرقام هيّن. ما يلزمنا الصدق في قراءة الأرقام كما هي دون تضخيم أو تقزيم، فكلاهما تزوير للحقيقة ولا تكون فيه الحلول إلا سرابا يؤدي إلى مزيد من الاحتقان وبالتالي الانفجار لا قدر الله.

قيل في رمضان كما كل عام، حاربوا الغلاء بالاستغناء. فما قولنا بالتضخم والكساد؟ أول خطوات العلاج حسن التشخيص ولا يسبقه بالفضل إلى الوقاية. وتلك معركة وعي في المقام الأول.. وهي معركة محلية وطنية، لا أمريكية ولا عالمية!

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version