ورغم المسار التصاعدي في القلق الأوروبي، حاول الكرملين تقديم إشارات تهدئة، مؤكداً أن بوتين “لا يخطط لإحياء الاتحاد السوفيتي”، وأن الادعاءات حول نية روسيا استهداف دولة عضو في الناتو “غباء تام”.

إلا أن هذا النفي لم يحدث أثرا كبيرا في أوروبا التي ترى في أي تنازل محتمل لروسيا في أوكرانيا خطوة يمكن أن تقود إلى واقع أمني أكثر هشاشة.

اتساع الفجوة بين الحليفين

يشير الخبير في الأمن الدولي مصطفى العمار، خلال مقابلة مع “التاسعة” على سكاي نيوز عربية إلى أنّ “حالة الفراق الفكري” بين أوروبا والولايات المتحدة تزداد وضوحا، بفعل التباينات بين مواقف المستشار الألماني والرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكنه يرفض توصيف الوضع كفراق كامل، قائلا إن لا أحد يرغب بنشوء قطيعة مع واشنطن “خصوصاً مع قرب أعياد الميلاد”، في وقت تتحدّث فيه المجتمعات عن المصالحة والسلام.

ويرى العمار أن الولايات المتحدة لا ترغب في تحمل أعباء إضافية بسبب الاختلافات الأوروبية، لأنها منشغلة بملفات آسيوية، وبقضايا الشرق الأوسط، إلى جانب مهام عالمية أخرى.

ويؤكد أنّ وجود اختلافات أوروبية حقيقية يزيد من تعقيد العلاقة مع واشنطن، الأمر الذي يفرض على أوروبا تبنّي نظرة واقعية في تعاملها مع الملفات الأمنية المشتركة.

أوروبا تبحث عن ضمانات.. وبرلين تعيد قراءة المستقبل

يشدد العمار على حاجة أوروبا إلى ضمانات أمنية في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، مع رفض أي نهاية تؤدي إلى انتصار روسي على حساب الأراضي الأوكرانية أو سيادتها.

ويكشف أن المجلس الأمني القومي الألماني بدأ، قبل أسبوعين، مناقشة سيناريوهات “الأسوأ” بالتنسيق مع القيادات العسكرية، بهدف وضع استعدادات جديدة لا تقتصر على ألمانيا فقط، بل تشمل الشركاء الأوروبيين وفي الناتو.

ويؤكد أنّ هذا المسار يتطلب رؤية واضحة، وإعادة بناء الاستراتيجيات استناداً إلى احتمالات مستقبلية “محتملة جداً”، بما في ذلك تعزيز الميزانيات الدفاعية وتسريع عملية إعادة هيكلة القدرات العسكرية.

تقارير استخباراتية وإنذارات مبكرة

يكشف العمار عن “معلومات استخباراتية” موضوعة على طاولة مجلس الأمن القومي تؤكد أن لدى روسيا خططاً مستقبلية قد تستهدف ألمانيا “بالذات”. ويرى أنّ على الحكومة الألمانية التعامل مع هذه التقارير كجرس إنذار، واتخاذ إجراءات استباقية.

ويبرر في هذا السياق الزيادة الضخمة في ميزانية الدفاع لعام 2026، التي بلغت 82.7 مليار يورو، بما يشمل رفع الإنفاق على الناتو رغم الأزمة الاقتصادية الأوروبية.

ويؤكد أنّ “تعزيز الأمن” بات أولوية لا يمكن تجاوزها، لأن غياب الأمن يعني انكشاف ألمانيا وأوروبا على مخاطر مباشرة.

من ميركل إلى شولتس.. تحولات استراتيجية… وقراءة مختلفة لبوتين

يعود العمار إلى عام 2022، مشيراً إلى أنّ القيادة الروسية أنكرت حينها وجود نية للهجوم على أوكرانيا، غير أن المستشارة السابقة أنغيلا ميركل كانت تعتمد مقاربة “التغيير عبر التجارة”.

ويرى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يأخذ هذا النهج في الحسبان، بل استغل ما وصفه بضعف الإدارة الألمانية بقيادة أولاف شولتس، وضعف الإدارة الأميركية بقيادة جو بايدن.

ويعتبر العمار أنّ ألمانيا “لا ترث واقعاً سهلا” اليوم، بل تعمل على “إرث سياسي حالك”، ما يستلزم إعادة صياغة خارطة أمنية جديدة، تتطلب توافقاً أوروبياً صلبا وإنفاقاً أكبر في الدفاع.

كما يشدد على ضرورة تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في المدى الطويل، رغم صعوبة ذلك حالياً بسبب امتلاك واشنطن 75% من القدرات اللوجستية والاستخباراتية داخل الناتو.

خطة جاهزية 2029.. الحرب قائمة.. ولكن بوجه غير تقليدي

يوضح العمار أنّ ألمانيا ليست في حرب مباشرة مع روسيا، “لكن موسكو ترى نفسها في حرب معنا”، وهو ما دفع برلين إلى وضع خطة استراتيجية تضمن جاهزية كاملة بحلول عام 2029.

ويشير إلى أن شكل الحرب الحالية مختلف، إذ تتجلى عبر التخريب، التجسس، الهجمات السيبرانية، والطائرات المسيرة، وهي أدوات تتطلب تحديثاً شاملاً للمنظومات الدفاعية.

كما يؤكد أنّ ألمانيا تعمل على تعزيز الشراكات الأوروبية، وزيادة الإنفاق الدفاعي، بما يشمل الاستعداد لخوض “تحديات موجودة مستقبلياً”، خاصة مع التصريحات الروسية التي خرجت عن الإطار الدبلوماسي، وأظهرت بحسب قوله رغبة في كسر الإرادة الأوروبية.

رفض التنازلات لأوكرانيا

يجدد العمار رفضه لأي تسوية تُجبر أوكرانيا على تقديم تنازلات إقليمية، محذراً من أنّ مثل هذه الخطوة ستعيد السيناريو ذاته خلال عام أو عامين، وقد تفتح الباب أمام استهداف دول البلقان لاحقاً.

ويعتبر أنّ المطلوب استراتيجية واضحة ترسل رسالة موحّدة “للصديق والعدو” على حد سواء، تقوم على بناء حلفاء “أقوياء لا جبناء”.

حروب المستقبل

يشير العمار إلى أنّ الحروب المقبلة لن تكون تقليدية أو قائمة على الجيوش النظامية فقط، بل ستعتمد على التكنولوجيا العالية والهجمات السيبرانية.

ويلفت إلى أن لدى ألمانيا القدرة والرغبة في الدفاع عن حريتها وديمقراطيتها، إضافة إلى قدرة صناعية تحتاج فقط إلى تخفيف البيروقراطية لضمان تكامل المصالح بين الدولة والشركات.

ويستشهد بخطوة وزير الداخلية الذي أنشأ وحدة جديدة تضم 150 عنصراً لمواجهة الطائرات المسيّرة، ضمن سلسلة من الإجراءات المتسارعة منذ تولّي الحكومة الحالية مهامها قبل نحو شهرين.

بين الاعتماد على واشنطن والسعي نحو استقلالية أوروبية

في ختام تحليله، يوضح العمار أنّ ألمانيا لا يمكنها التخلي عن الولايات المتحدة حالياً، ليس فقط بسبب الوجود العسكري الأميركي الذي يضم 45 ألف جندي داخل ألمانيا، بل أيضاً لوجود رؤوس نووية تابعة للناتو لا يمكن استخدامها دون موافقة واشنطن.

ومع ذلك، يشدّد على أنّ الهدف يبقى تحقيق قدر من الاستقلالية الأوروبية تدريجياً، عبر تعزيز القدرات الدفاعية والشراكات، وصولاً إلى منظومة أمنية قادرة على مواجهة التهديدات دون الارتهان لقرار خارجي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version