خاصرقائق الذكاء الاصطناعيشهدت أسواق الأسهم الصينية موجة من الحماس غير المسبوق في قطاع رقائق الذكاء الاصطناعي، حيث توّج الاكتتاب العام القياسي لشركة مور ثريدز تكنولوجي عاماً مليئاً بالتفاؤل حول قدرة الشركات المحلية على تحقيق طموحها في منافسة اللاعبين العالميين الكبار في هذا المجال.هذا التفاؤل يغذيه دعم حكومي غير محدود وخطط لتمويل القطاع بعشرات المليارات، مما يُشير إلى تصميم بكين على تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي في أحد أهم مجالات المستقبل.
ومع ذلك، تفرض الحقائق التقنية الميدانية تحديات لا يمكن تجاهلها، حيث يواجه القطاع قيوداً تكنولوجية مزمنة ونقصاً في معدات التصنيع المتقدمة، مما يُبقي الفجوة مع الغرب قائمة.
أمام هذا التباين بين ضخامة التمويل وواقع الصعوبات التقنية، هل يكفي التمويل الضخم لسد الفجوة التكنولوجية الصينية مع الغرب؟ وهل يُخفي نجاح الاكتتابات العامة الصينية ضعف الاعتماد الذاتي التقني؟ وكيف ستواجه الصين عقبات الرقائق الأساسية للذكاء الاصطناعي بالمستقبل؟
الاستثمار في مواجهة الواقع التقني
سجلت شركات رقائق الذكاء الاصطناعي الصينية ارتفاعات مالية لافتة، أبرزها صعود سهم مور ثريدز تكنولوجي بنسبة بلغت 425 بالمئة في أول يوم تداول له، ليصبح أنجح اكتتاب عام أولي في البلاد منذ عام 2019.
هذا النجاح يمثل ذروة الحماس الاستثماري تجاه قطاع أشباه الموصلات، الذي يُعد أولوية قصوى لبكين، بحسب تقرير نشرته وكالة “بلومبرغ” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأوضح التقرير أن هذا التفاؤل يمتد ليشمل شركات أخرى مثل كامبريكون تكنولوجيز وميتاكس، التي تتلقى دعماً حكومياً ضخماً يصل إلى نحو 70 مليار دولار.
ومع ذلك، تُظهر الحقائق التقنية أن هذا الازدهار المالي يرتكز على قاعدة تكنولوجية تواجه تحديات أساسية قد تُعيق آفاق القطاع على المدى الطويل، مما يخلق تبايناً حاداً بين القيمة السوقية الضخمة لشركات ناشئة لا تزال تحقق خسائر وبين كفاءتها الإنتاجية الفعلية.
رجب: أميركا لا تزال تحافظ على تفوقها في تصنيع الرقائقعقبات التصنيع ونقص العائد
تتمثل إحدى أهم العقبات في اختناقات التصنيع المتقدمة، إذ تعتمد الشركات الصينية، مثل هواوي، على شركة إس إم آي سي (SMIC) – المدرجة على القائمة السوداء الأميركية – التي لا يمكنها الحصول على معدات متقدمة لإنتاج الرقائق بكفاءة.
وتؤكد البيانات المتاحة أن هذا القيد يؤدي إلى تضحيات كبيرة في التكلفة، حيث يوضح كارل لي، مدير الاستثمار في الأسهم الصينية في “أبردين إنفستمنتس” أن التحدي الجوهري يكمن في الوصول إلى سعة “الويفر” ذات العقد المتقدم، متوقعاً استمرار الفجوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة للعامين المقبلين.
وقد تجسد هذا التحدي في انخفاض كفاءة الإنتاج؛ فوفقاً للتقرير، تنتج شركة كامبريكون أفضل معالجاتها بمعدل عائد يبلغ حوالي 20 بالمئة فقط، مما يعني التخلص من غالبية قوالب السيليكون المنتجة.
فجوة الإمداد والاعتماد على المخزون
إلى جانب مشكلات التصنيع، يواجه القطاع تحديات قوية تتعلق بسلسلة الإمداد، خاصة في مكونات الذاكرة عالية الأداء.
يُشير التقرير إلى أن الشركات الصينية تضطر إلى الاعتماد على الأجزاء الأجنبية المهربة أو المخزنة سابقاً، وتحديداً رقائق الذاكرة عالية النطاق الترددي (HBM) من شركات مثل إس كيه هاينكس وسامسونغ للإلكترونيات، لأن الصين لم تُنشئ نظاماً متكاملاً لتوفير هذه الأجزاء الحيوية.
ويُضاف إلى ذلك، وفقاً لتقرير الوكالة الأميركية، “الحظر المفروض من واشنطن وحلفائها (مثل اليابان وهولندا) على تصدير الآلات اللازمة لتصنيع أحدث رقائق الذكاء الاصطناعي، وفي مقدمتها نظام الطباعة الحجرية بالضوء فوق البنفسجي الشديد (EUV) من شركة إيه إس إم إل الهولندية”.
وعلى الرغم من القيود المفروضة على الأجهزة، يُنظر إلى أن هذه التحديات قد تدفع الابتكار في مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي. حيث يرى المحلل في “فورستر ريسيرش”، تشارلي داي، أن التزام الصين الاستراتيجي بتحقيق الاكتفاء الذاتي في أشباه الموصلات “سيظل راسخاً”، مشيراً إلى أن القيود المفروضة ستكون محدودة الأثر على المدى الطويل.
كما يوضح فيليكس وانغ من هيدج آي ريسك مانجمنت أن الصين قد تتمتع بميزة في مجال البرمجيات، حيث يتطلب نقص الرقائق المتطورة من الشركات الصينية أن تكون “أكثر براعة في إيجاد التحسينات” في النماذج مفتوحة المصدر، مما يؤدي إلى تطوير نماذج قادرة مثل ديب سيك رغم محدودية الوصول إلى مسرعات إنفيديا المتقدمة.
ومع ذلك، تبقى قدرة الشركات الصينية على تكرار منظومة متكاملة للرقائق والبرمجيات تحدياً يتطلب، بحسب المحلل فيليكس لي من مورنينغ ستار، أكثر من عشر سنوات لمعالجته.
ضوء أخضر أميركي لتصدير رقائق ذكاء اصطناعي متطورة للصينطبيعة صناعة الرقائق واحتكار الأدوات
في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال عاصم جلال استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في “G&K”: “صناعة الرقائق وأشباه الموصلات الحالية خاصة تلك ذات الدقة المتناهية والتركيز المساحي الفائق هي صناعة أوليغاركية (احتكار القلة). حيث يحتكر عدد قليل جداً من الشركات العالمية التكنولوجية التي تحتاجها الشركات المصنعة للرقائق حتى تتمكن من إنتاجها”.
وأضاف: “فعلى سبيل المثال يحتاج ترسيم الدوائر على أشباه الموصلات أشعة ليزر موجهة متناهية الدقة يوجد لها مصنع واحد في العالم.. شركة ASML الهولندية. أما العدسات التي تستطيع مواكبة هذه الدقة لا تنتجها إلا شركة وحيدة – Zeiss الألمانية. وبالمثل شركة Epson اليابانية في كيميائيات خاصة في عملية تشبه “تحميض الأفلام” وهي مرحلة لاحقة في ترسيم الدوائر”.
وأشار جلال إلى أنه في ظل حظر التصدير الذي فرضته الولايات المتحدة بالتعاون مع شركائها لحرمان الصين من هذه التكنولوجيات بهدف استمرار الهيمنة الأميركية العالمية واستراتيجية القطب الواحد، وجدت الصين نفسها بين اختبارين صعبين، إما الرضوخ وإما اعادة إختراع هذه الصناعة للنجاح فيها حتى بدون التكنولوجيات المساعدة اللازمة.
خيارات الصين لمواجهة القيود التكنولوجية
وأوضحت الشهور السابقة الطفرة التي أبهرت الجميع من نماذج الذكاء الاصطناعي التي تم تطويرها حتى في ظل حرمانها من العتاد اللازم في تشغيل وتدريب النماذج، وجاء الإبهار في قدرة الشركات الصينية على إنتاج نماذج تنافس بها أعتى النظم الغربية بتكلفة تدريب تقل بكثير عن منافسيها وكفاءة تشغيل أعلى وتقدم مفتوحة المصدر ومجانية للمستخدمين.
وكان ذلك نتيجة استثمارات فائقة من الحكومة الصينية وشركات القطاع الخاص في الأبحاث والتطوير في هذا المجال، بحسب تعبيره.
ولكن يرى جلال “أن الرقائق تظل ساحة المعركة التي تفصل بين الصين وأميركا – فمع أن المنتج الأول لها في العالم هو تايوان – إلا أنه، تسيطر أميركا على مفاتيح هذه الصناعة بالكامل وتعمل على حرمان الصين من اللحاق بها”
وذكر استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في “G&K” جلال أنه لكي تتمكن الصين من كسر هذا الحاجز قد يترتب عليها:
الهندسة العكسية للتكنولوجيات الموجودة وإعادة إنتاجها. وذلك أمر غاية في الصعوبة لعدة عوامل ويتكلف استثمارات هائلة وحقب زمنية طويلة.
تصميم وإنتاج تكنولوجيات بديلة ومع أنه الخيار ذو الوقع الأكبر فإنه يعني أن تنافس دولة واحدة ما نجحت في تحقيقه عدة دول متعاونة من أقطاب الصناعة العالمية في عشرات السنين وبميزانية وقدرات بشرية هائلة.
السبق في تكنولوجيا تربك هذه الصناعة تماماً وتغير من قواعدها مثل اعتماد الحوسبة الكمومية Quantum Computing بدلاً من الحوسبة التقليدية وبناء عتاد خاص بها.
ترامب يسمح بتصدير رقائق ذكاء اصطناعي متطورة إلى الصين”النشوة” وهمية جزئياً
بدوره قال الخبير الاقتصادي هاشم عقل، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “إن الازدهار الحالي في أسواق الأسهم الصينية، الموصوف بـ (النشوة الصينية)، يعكس ثقة عالية في القدرة الصينية على المنافسة في سباق الذكاء الاصطناعي، إلا أنه يثير تساؤلات حول استدامته”.
وأشار عقل إلى أن التمويل الضخم وحده لا يكفي لسد الفجوة التكنولوجية في تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة (أقل من 7 نانومتر)، موضحاً أن الفجوة في مجال الإنتاج المتكامل تظل واسعة وتصل إلى ما بين 5-7 سنوات.
ورغم نجاح الصين في تحقيق استقلاليتها في معدات أشباه الموصلات بنحو 50 بالمئة بحلول نهاية عام 2025، إلا أنها لا تزال تعتمد على تقنيات غربية في الإنتاج المتطور.
وأوضح الخبير الاقتصادي عقل أن نجاح الاكتتابات العامة يُخفي ضعف الاعتماد الذاتي التقني إلى حد كبير، حيث يرتكز الازدهار على حماس المستثمرين أكثر من الأداء الفعلي، مستدلاً بحالة شركة ميتاكس (MetaX) التي سجلت خسائر كبيرة بلغت 345.5 مليون يوان في الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، على الرغم من ارتفاع إيراداتها، مما يشير إلى نموذج أعمال قد يكون غير مستدام.
كما لفت إلى أن “النشوة” وهمية جزئياً لأن الصين لا تزال تواجه صعوبة في الوصول إلى سعة الإنتاج المتقدمة.
استراتيجية بكين متعددة الأبعاد نحو الاستقلال الذاتي
وفيما يتعلق بمواجهة العقبات المستقبلية، ذكر عقل أن الصين ستعتمد على استراتيجية متعددة الأبعاد، تشمل رفض شراء رقائق متقدمة مثل H200 من إنفيديا لدعم الشركات المحلية، وزيادة التركيز على جذب المواهب، وتكثيف البحث في الذكاء الاصطناعي الكامل بهدف الوصول إلى 50 بالمئة استقلالية في المدخلات بحلول عام 2030.
وختم عقل بتحذير، مفاده أن التحديات المستقبلية والقيود الدولية قد تبطئ التقدم لمدة تتراوح بين 3 إلى 5 سنوات، وأن النجاح يتطلب إصلاحات هيكلية ليكون مستداماً.





