خاصتجارة الصينلم تعد تعديلات قانون التجارة الخارجية في الصين مجرّد خطوة تشريعية عادية، بل تعكس تحوّلًا استراتيجيًا عميقًا في مقاربة بكين للاقتصاد العالمي، حيث انتقلت من موقع الدفاع إلى تبنّي نهج هجومي منظم في إدارة الصراع التجاري الدولي.فمع موافقة الحكومة الصينية على تعديلات واسعة تمنحها صلاحيات غير مسبوقة للرد على الرسوم والقيود التجارية المفروضة على صادراتها، بات واضحًا أن التجارة تحوّلت إلى أداة قوة لا تقل تأثيرًا عن السياسة أو الجغرافيا.
وتكتسب هذه الخطوة حساسيتها من موقع الصين في قلب سلاسل التوريد العالمية، إذ تسيطر على نحو 69 بالمئة من الإنتاج العالمي للمعادن النادرة، التي تشكّل عنصرًا أساسيًا في الصناعات التكنولوجية والدفاعية، ونحو 80 بالمئة من صناعة ألواح الخلايا الشمسية عالميًا، إضافة إلى 69 بالمئة من سوق بطاريات السيارات الكهربائية، فيما تمثّل السيارات الكهربائية الصينية قرابة 70 بالمئة من الإنتاج العالمي. كما تمتد الهيمنة الصينية إلى قطاعات أكثر حساسية، تشمل 74 بالمئة من صناعة ناقلات النفط عالميًا، و80 بالمئة من المكونات الصيدلانية الفعالة الجنيسة، إلى جانب 35 بالمئة من إنتاج الطابعات ثلاثية الأبعاد.
الصين تقر تعديلات قانون التجارة الخارجيةفي هذا السياق، لا يمكن قراءة التعديلات القانونية بمعزل عن تحوّل السياسة الخارجية الصينية من مبدأ التريّث والعمل الهادئ إلى سياسة “إظهار القوة”، في لحظة تعيد فيها بكين رسم قواعد الاشتباك الاقتصادي مع العالم.
الصين وإعادة ترتيب البيت الداخلي
في حوار معمّق مع برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، كشف د. محمد أنيس، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، عن دوافع الصين لتغيير سياساتها التجارية ووضع قيود جديدة على صادراتها، موضحاً أن هناك بعدين رئيسيين لهذه التحركات، الأول داخلي والآخر خارجي مرتبط بالاستراتيجيات العالمية.
وأشار أنيس إلى أن التحولات الداخلية تعود إلى تطورات القطاع الخاص الصيني خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث زاد حجم القطاع غير التابع مباشرة للحزب الشيوعي الصيني، ما أدى إلى ظهور تضارب مصالح بين البيروقراطيين داخل الحزب وبين الشركات الخاصة. هذا التضارب دفع بعض الشركات إلى اتخاذ إجراءات قانونية ضد الوزارات والهيئات الحكومية، ما وضع المحاكم الصينية في موقف حرج، بحسب أنيس.
ولمعالجة هذه الأزمة، شرعت الصين في تعديل القانون بحيث يُمنح الحق للسلطة التنفيذية في اتخاذ إجراءات مرتبطة بالجمارك ومنع الصادرات، بدلاً من أن تتخذ الشركات الخاصة إجراءات قانونية ضد الحكومة، كما حدث مؤخراً في حالة إيقاف استيراد المنتجات البحرية اليابانية.
ويوضح أنيس أن هذا التوجه يمثل “إعادة ترتيب البيت الداخلي” للصين، وضمان قدرة السلطة التنفيذية على إدارة الملفات الحساسة دون نزاعات قضائية، مع الحفاظ على مصالح الحزب الحاكم والمصالح الوطنية في مواجهة التحديات الداخلية.
أنيس: واشنطن تسعى لعرقلة تحول الصين إلى قوة عظمىاستعراض القوة والتنافس العالمي: السيارات والطاقة الشمسية في قلب الاستراتيجية
أما البعد الخارجي للقيود الجديدة، فهو مرتبط بالتوسع الصيني في ثلاثة قطاعات استراتيجية: السيارات الكهربائية، البطاريات، وقطاع الطاقة الشمسية والمتجددة. وبيّن أنيس أن الصين تسعى من خلال هذه الإجراءات إلى السيطرة القانونية والتجارية على هذه القطاعات، ما يعزز موقفها التفاوضي في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى خارج نطاق الهيمنة الأميركية.
ويضيف أنيس أن الصين تسعى لإظهار قوتها الاقتصادية عبر هذه الإجراءات، مشيراً إلى أن وجهات النظر حول هذا التحرك تنقسم بين فريقين: الأول يرى أن القيود قد تضر بالصين على المدى الطويل من خلال دفع المستوردين للبحث عن بدائل، بينما يرى الفريق الثاني أن هذه الاستراتيجية تمكّن الصين من فرض هيبتها الاقتصادية والتموضع بوضوح أمام الشركاء الدوليين.
ويعتقد أنيس أن الصين ستحاول بشكل أساسي إرضاء الأطراف غير الأميركية وفتح أسواقها المحلية للقطاع التكنولوجي، مقابل تسهيل وصول صادراتها إلى هذه الأسواق، مع التركيز على السوق الأوروبي وسوق دول مجلس التعاون الخليجي، باعتبارهما أسواقاً ذات قدرة شرائية عالية.
أوراق القوة الصينية: التفاوض الذكي واستراتيجية النفاذ للأسواق العالمية
في هذا الإطار، أوضح أنيس أن الصين تمتلك أوراق قوة مهمة تشمل مجالات التكنولوجيا المالية ، وسوق وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يمكن لبكين استخدام هذه المجالات في التفاوض مع الشركاء الأوروبيين لتعزيز مكانتها مقابل الولايات المتحدة.
وأضاف أن الصين تهدف إلى التوصل إلى اتفاقيات تجارية خلال الجولة الثانية من التفاوض مع الولايات المتحدة في النصف الأول من عام 2026، ضمن مرحلة هدنة مؤقتة مدتها عام، ما يعكس التحولات العميقة في خارطة التجارة العالمية التي لم تشهد مثلها منذ قرن من الزمن.
وشدد أنيس على أن الصين، من خلال هذه التحركات، لا تسعى فقط لضبط الداخل وحماية القطاع الخاص، بل تهدف أيضاً إلى تعزيز نفوذها العالمي، واستغلال فرص السوق الأوروبية والخليجية للحد من تأثير الضغوط الأميركية، وبالتالي تحقيق توازن جديد في العلاقات الاقتصادية الدولية.
الصين وإعادة رسم خرائط التجارة العالمية
يرسم تحليل د. محمد أنيس صورة واضحة لاستراتيجية الصين الاقتصادية والسياسية، التي تجمع بين إدارة الأوضاع الداخلية والتوسع الخارجي الممنهج. فمن جهة، تقوم الصين بتقنين السلطة التنفيذية لمواجهة تضارب المصالح داخل القطاع الخاص، ومن جهة أخرى، تستخدم هذه القوة لضمان سيطرة على القطاعات الحيوية واستعراض نفوذها في الأسواق العالمية.
وبحسب أنيس، فإن هذه الإجراءات ليست مجرد قيود عابرة، بل تمثل جزءاً من خطة استراتيجية شاملة ترمي إلى تعزيز القدرة التفاوضية للصين مع الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى، وتأمين موقعها في سلسلة القيمة العالمية، خصوصاً في الصناعات التقنية والحيوية.
ويخلص التحليل إلى أن الصين، عبر هذه الاستراتيجية المزدوجة، تعمل على إعادة رسم خرائط التجارة العالمية، بما يعكس تحولاً تاريخياً في العلاقات الاقتصادية الدولية، ويضع شركاءها في مواجهة تحديات جديدة، مع فرص متجددة للانخراط في أسواقها الاستراتيجية.
الصين تحول التجارة لسلاح سيادي في وجه الغرب
أخبار شائعة
- تحسن وتيرة نمو نشاط قطاع التصنيع في الصين
- السلق أم القلي.. ما أفضل طريقة لطهي البيض؟
- الأردن يصدر بيانا بشأن "أحداث اليمن"
- مهدي: أسواق الإمارات شهدت أداءً مميزًا خلال 2025
- شرطة لندن في مواجهة الماسونية.. معركة "الشفافية" وصلت القضاء
- انقسام "غير مسبوق" يسيطر على اجتماع الفيدرالي الأخير
- الصين تُشعل ترقب سوق الفضة.. ما القصة؟
- علي الكثيري: قرارات العليمي تدفع نحو المجهول





