كتب – بنيمين زرزور:بات من المؤكد أن الروس حققوا القسم الأكبر من خطتهم العسكرية في إقليم دونباس، وأن الانسحابات التكتيكية للجيش الأوكراني هي انعكاس لتقهقره وضعف قدراته على المجابهة، نتيجة لعوامل عدة، وهو ما سوف يرسم مسار الحرب قبل حلول الشتاء.
بعد أربعة أشهر من الحرب، وبعد ثلاثة أشهر من إعلان الروس أنهم سوف يركزون هجماتهم على الجزء الشرقي من البلاد، شهدت الحرب معارك شرسة في دونباس. ويبدو أن آمال الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي في تحقيق نصر سريع – أو حتى فوز قد يتحقق في الأسابيع المقبلة – قد تلاشت كلياً.
وفي الوقت الذي تستعر فيه الحرب في الشرق تستمر القوات الروسية في توجيه ضربات مركزة على مناطق أخرى، لعرقلة وصول الإمدادات اللوجستية الغربية، ووضعها في الاستخدام الفعلي، الأمر الذي يراهن عليه الأوكرانيون في تحقيق توازن من نوع ما. وبينما يجمع المراقبون على أن الروس يحققون أهدافهم بثبات، يختلفون حول نسبية السرعة التي يتم بها ذلك.
اختراق روسي
وقد راهن الغرب منذ البداية على عزل الروس عالمياً وتشديد العقوبات على موسكو من خلال ما أطلق عليه اسم «الستار الحديدي». ويبدو أن هذا التصور يقتصر على عواصم الدول الغربية فقط. فقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية أنشطة أكدت علاقات موسكو الطبيعية مع عدد من الدول المهمة خاصة الصين والهند. وقد تبين أن بوتين ليس منبوذاً. وبينما تعرضت موسكو لعقوبات غير مسبوقة أدت فعلياً إلى استبعاد روسيا من أجزاء كبيرة من النظام المالي الدولي وأثرت في جميع أجزاء اقتصادها، لا تزال روسيا تحتفظ بعلاقات مع هذه الدول وتبدي قوة مقاومة استثنائية في وجه العقوبات حتى الآن على الأقل.
وقد شارك بوتين في قمة «البريكس» الأخيرة في بكين تلتها جولاته التي شملت قمة قزوين وزيارات دول الجوار الجنوبي. يضاف إليها التأييد الذي لا تزال تبديه دول مثل الهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا. وقد قبلت موسكو دعوة فلاديمير بوتين لحضور قمة مجموعة العشرين في وقت لاحق من هذا العام في إندونيسيا.
ومن الواضح أن مرد ذلك يعود إلى قوة روسيا التي تسيطر على اقتصاد غني جداً بالموارد ولاعب رئيسي في سوق الغاز والنفط العالمي. وقد زادت الإمدادات إلى الصين والهند مع خصومات كبيرة جداً في وقت لعبت فيه الحرب دوراً كبيراً في ارتفاع هذه الأسعار دولياً.
كانت إمدادات النفط الروسية تراوح بين 1 و3 في المئة من واردات الهند قبل الحرب وقد بلغت حالياً 30% حسب أحدث التقديرات، أي أنها تجاوزت وارداتها من المملكة العربية السعودية.
تململ أوروبي
والسؤال الآن إلى متى سيقف العالم مع أوكرانيا؟ قد لا تكون الإجابة صعبة بعد تكشف الكثير من مظاهر التململ في مواقف دول الغرب. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان أول من أثار فكرة الحرص على عدم إذلال روسيا وأن الوقت قد حان لبدء العمل على مسار يمنح بوتين فرصة تسمح له الخروج من الحرب. الألمان مترددون في معاداة روسيا، لإدراكهم بأن ذلك يعني حالة طوارئ اقتصادية بدأت مؤشراتها تظهر؛ حيث حذر وزير الاقتصاد روبرت هابيك خلال ندوة للمنتدى الاقتصادي لحزب المستشار أولاف شولتس الاشتراكي الديمقراطي أن بلاده ستواجه تحديات جسيمة في الشهور المقبلة في ضوء الأزمات الراهنة.
وكان استطلاع للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية قبل أيام قد قسم الدول الأوروبية أساساً إلى معسكرات السلام ومعسكرات الحرب. والمثير للاهتمام أن إيطاليا كانت الأكثر تشككاً في جدوى دعم الجيش الأوكراني.
مأزق أمريكي
وفي نفس الوقت يعتري الموقف الأمريكي الكثير من الوهن نتيجة تباين موقف أرباب المال من الحرب وتهديد انتخابات التجديد النصفي؛ حيث تنعكس سياسات الحزبين ومواقفهما من الدعم السخي لأوكرانيا على مواقف الناخبين الذين يتذمرون من ارتفاع معدلات التضخم لمستويات غير مسبوقة.
ويتساءل المحللون عما إذا كانت الإحباطات التي تعانيها إدارة بايدن على جبهات أخرى قد تعمل لمصلحة أوكرانيا. لكن يبدو أن هناك صعوبة في ضخ مليارات الدولارات لأوكرانيا حالياً، مع وجود الكثير من الأولويات الأخرى التي يرغب بايدن في تحقيق تقدم فيها.
وقد عكست مداولات المانحين في مؤتمر إعادة إعمار أوكرانيا الذي عقد في مدينة لوغانو السويسرية، وأعلن تخصيص 750 مليار دولار لعمليات إعادة الإعمار، تركيزاً واضحاً على أهمية الإصلاحات التي ينبغي على كييف تعميقها لإنجاح مبادرة إعادة الاعمار، وهي الرسالة التي فهم منها أنه لولا ظروف الحرب واحتمالات اتساع رقعتها فإن حكومة زيلينسكي ليست محل ثقة لاستمرار تلقي الدعم.
ومسألة استمرار الدعم إلى ما لانهاية باتت مطروحة بقوة وعلانية في دوائر صنع القرار في بعض عواصم الغرب بعد أن استنفدت كل الرهانات على حرب خاطفة يهزم فيها بوتين ويتم تحجيم دوره على الساحة العالمية.
وتزيد تبعات حرب السلع الغذائية من وزر الحرب الذي يتحمله الغرب خاصة مع سيطرة الروس على نسبة 30% من القمح الذي يستهلكه العالم وتحكمهم في حركة السلع الغذائية الأوكرانية عبر الموانئ البحرية، ما يهدد بتفاقم كوارث الجوع وأزمات ارتفاع الأسعار حتى في دول الغرب الغنية التي خصصت 600 مليار دولار لدعم مشاريع النبية التحتية ومنها مشاريع الإنتاج والتسويق الزراعي؛ وذلك في مؤتمر مجموعة السبع الصناعية. ووسط هذه التشابكات والتعقيدات لا بد من وضع قواعد جديدة لممارسة لعبة عض الأصابع.