أدى اعتداء الشرطة الإسبانية في 2017 أكتوبر/تشرين الأول، على التصويت في كاتالونيا في استفتاء سلمي إلى ظهور نضال كاتالونيا من أجل الاستقلال على الصفحات الأولى من الصحف العالمية. اليوم يبدو أن هؤلاء الناخبين الذين يبلغ عددهم مليونين لم ينسوا ما حدث، ونضالهم مستمر. يتناول هذا الكتاب تاريخ كاتالونيا وعلاقاتها مع الجوار من القرون الوسطى حتى يومنا هذا.

يحاول هذا الكتاب الصادر في سبتمبر/أيلول 2022 عن دار «بوتو برس» للنشر ضمن 288 صفحة، توضيح أنه لا يمكن حصر الوعي القومي لكاتالونيا في التصويت الأخير؛ بل له جذور عميقة ممتدة. يتعمق الكتاب في رواية تاريخ الشعب الكاتالوني بكل ثرائه وتعقيده؛ إذ يبين كيف واجه نضال كاتالونيا من أجل الحرية مقاومة عنيفة لعدة قرون، ويشير إلى أنه منذ القرن التاسع عشر، كان النضال من أجل السيادة الوطنية يتداخل في كثير من الأحيان مع تعبئة مشاعر الطبقة العاملة من أجل إحقاق العدالة الاجتماعية، حتى أن برشلونة أصبحت تعرف باسم وردة النار. وفي عام 1936، شهدت كاتالونيا واحدة من أعتى الثورات العمالية في التاريخ.

يروي الكتاب قصة لم تُكتب نهايتها بعد؛ إذ يبدأ من ثورات الفلاحين في القرن الخامس عشر وحصار برشلونة في عام 1714، مروراً بالحركة العمالية المتفجرة التي قادها الأناركيون، والهزيمة في الحرب الأهلية الإسبانية، إلى المقاومة ضد فرانكو في السنوات القاتمة التي تلت ذلك. يقول المؤلف: «غالباً ما يصاب الأشخاص الذين يعيشون خارج الدولة الإسبانية بالدهشة من طريقة مناهضة الحركات الداعية لاستقلال كاتالونيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون والصحافة الإسبانية»، 

 لذلك يحاول في هذا الكتاب استكشاف خلفية هذا العداء المقلق الذي تغذيه اليوم الطبقة الحاكمة الإسبانية لمعارضة النضال الكاتالوني من أجل الاستقلال. ويوضح بالقول: «هذه المعاداة للكاتالونية ليست رد فعل جديد على الانفصاليين، لكن جذورها تمتد عميقاً في التاريخ. كان هجوم الشرطة الإسبانية على تصويت الكاتالونيين في استفتاء 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017 والذي تصدّر العناوين الإخبارية الرئيسية في جميع أنحاء العالم أحدث صدام في صراع يمتد عمره لقرون. يمكن إرجاع الصراع إلى القرن الخامس عشر عندما اعتلى ملك قشتالة عرش تاج أراغون في عام 1412 بعد أن تلاشت سلسلة كونتات برشلونة».

 مجد كاتالونيا الغابر

 يقدم الكتاب سرداً زمنياً لهذا النضال الذي استمر قروناً في كاتالونيا من أجل البقاء كأمة مستقلة. توضح الفصول الخمسة الأولى مجد كاتالونيا في العصور الوسطى وانهيارها الطويل. يركز الفصل الأول على تطور كاتالونيا في العصور الوسطى قوةً متوسطية. يوضح المؤلف فيه كيف بدأت تتشكل كياناً في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. تم الرد على، ما يسميه بعض المؤرخين «الثورة الأرستقراطية» لفرض الإقطاع على الفلاحين المالكين للأرض منذ نحو 1000 ميلادي بقوة من قبل الكنيسة التي قادت الحركة. أدى ذلك، في العقود التالية، إلى تشريع ينظم العلاقات بين الملك والفلاحين والنبلاء، ويتضح من سلسلة القوانين والممارسات أن كونت برشلونة كان خاضعاً للسيطرة جزئياً من الكورتس (البرلمان).

 يركز الفصل الثاني على ثلاثة صراعات طبقية كبرى في القرن الخامس عشر، هي: أولاً الحرب الأهلية بين الملك والحكومة الكاتالونية الجديدة المعروفة باسم «جينراليتات»، وثانياً انتفاضة التجار الصغار والحرفيين وأصحاب المهن الحرة ضد «المواطنين الشرفاء» الأثرياء؛ وثالثاً ثورة الفلاحين التي هزت البلاد وكسرت ظهر القمع الإقطاعي. يقول المؤلف: «في عام 1492، ظهرت الدولة الإسبانية تحت قيادة فرديناند أراغون وإيزابيلا قشتالة. لم يكن هناك مجال لكاتالونيا أن تظهر مستقلة في إسبانيا الجديدة التي بنيت في القرن السادس عشر – من خلال الغزو العسكري – أعظم إمبراطورية لم تشهدها أوروبا حتى الآن، تمتد من أمريكا إلى فلاندرز (بلجيكا الآن) وإيطاليا والفلبين. ومع ذلك، فقد مارست أجيال من المؤرخين التناقض؛ إذ إن الإمبراطورية الإسبانية تحت حكم آل هابسبورغ لم تكن قادرة على توحيد شعوب أيبيريا. استمرت كاتالونيا، على الرغم من كونها جزءاً من إسبانيا الجديدة، في رفع الضرائب الخاصة بها وإخضاعها لبرلمانها الخاص. سحق الإمبراطور الروماني المقدس شارل الخامس، أول ملوك هابسبورغ في إسبانيا (1516-1556) بوحشية الكورتيس الإسباني (البرلمان)، لكنه لم يحاول قمع حقوق كاتالونيا. كان عليه أن يتفاوض مع الكاتالونيين لأنه كان يريد جمع الأموال منهم».

 يتناول الفصلان الثالث والرابع الحربين اللتين خاضهما الملوك الإسبان ضد كاتالونيا. يوضح المؤلف بالقول: «عندما وصل أوليفاريس إلى السلطة في مدريد عام 1621، بدأ في الضغط بشدة من أجل توحيد الإدارة والجيش والضرائب في جميع أنحاء إسبانيا. أدى ضغطه إلى اندلاع الثورة الكاتالونية في 1640-1641، حينما اقتربت كاتالونيا من نيل الاستقلال». يناقش المؤلف في الفصل الرابع حصار برشلونة لمدة عام في 1714. إذ بعد الوعد بتقديم الدعم لكاتالونيا في حرب الخلافة الإسبانية، تخلت إنجلترا عنها. وتم تقليص كاتالونيا إلى مقاطعة في إسبانيا، وقمع كل خصائصها المميزة: القوانين، الهيئات الإدارية، اللغة، الجامعة، إلخ. هذه الهزيمة بقيت ندبة عصية على الاندمال في جسد كاتالونيا. ويعد اليوم الذي استولت فيه قوات بوربون فيليبي الخامس على برشلونة في 11 سبتمبر(/أيلول، تاريخ اليوم الوطني لكاتالونيا، حيث يتم تكريم من ماتوا في الحصار. في السنوات الأخيرة من تصاعد النضال من أجل الاستقلال، خرج أكثر من مليون شخص في تظاهرات خلال 11 سبتمبر/أيلول، أي نحو 14 في المئة من سكان البلاد.

 يركز الفصل الخامس على حرب مدمرة أخرى: احتلال نابليون لإسبانيا في 1808-1814، بما في ذلك اندماج كاتالونيا في الدولة الفرنسية لمدة عامين. يقول المؤلف: «انتشرت المقاومة الشعبية الكاتالونية على نطاق واسع، ولعب المثقفون الكاتالونيون دوراً رائداً في صياغة دستور إسبانيا الليبرالي لعام 1812. كان هذا الجيل من الكاتالونيين المستنيرين يطمح إلى إخراج إسبانيا من تخلفها لتصبح ديمقراطية رأسمالية، لكن آمالهم تبددت بسبب عودة استبداد فرناندو السابع».

 نضال الطبقة العاملة

يهيمن نضال الطبقة العاملة على الجزء الثاني من الكتاب. ففي القرن التاسع عشر، طورت برشلونة سمعتها باعتبارها المدينة الأكثر تشدداً في أوروبا الغربية. يصف الفصل السادس التمردات الشرسة المستمرة ضد الفقر وعبودية الأجور في ثلاثينات القرن التاسع عشر وأربعينات القرن التاسع عشر، حيث تم بناء مصانع القطن الرأسمالية على أساس أرباح التجارة ومن مزارع العبيد في كوبا. في نفس الوقت الذي كانت فيه تمردات الطبقة العاملة الأولى، كان الكارليون، الذين أرادوا العودة إلى الملكية المطلقة، يقاتلون الجيش الإسباني في الريف الكاتالوني. ولإضفاء المزيد من التعقيد، كانت النهضة الكاتالونية للروح الوطنية تستعيد ذكرى ماضيها المجيد، أولاً في الثقافة واللغة ثم في نهاية القرن التاسع عشر، في التنظيم السياسي. يرى المؤلف أنه «يمكن فهم تاريخ كاتالونيا الحديث بشكل أفضل من خلال تشابك المطالب الوطنية والطبقية، أو في كثير من الأحيان فشلهم في التشابك. كان هناك خط فاصل خطِر بين العاصمة السياسية مدريد والمراكز الاقتصادية على السواحل الشمالية والشرقية، بين المصالح الزراعية العسكرية وشبه الإقطاعية واحتياجات الرأسمالية الصناعية».

 يتطرق الفصل السابع إلى الإطاحة بملكة بوربون إيزابيل في عام 1868 وانفجار الحرية الذي أدى إلى الجمهورية الأولى عام 1873. بدأت الأناركية في التنظيم في هذه السنوات القصيرة من حرية التعبير، لكن استراتيجياتها في مقاطعة العمل السياسي والدعوة إلى ثورة فورية تعني أن تأثيرها ضئيل على الطبقة العاملة والطبقات الوسطى التي تناضل من أجل الجمهورية. في عام 1874، تمت الإطاحة بالجمهورية واستعادة آل بوربون الحكم. لكن ظهرت عظمة الحركة الأناركية في العقود التالية في عملها التربوي بين الفلاحين الجهلة والبروليتاريا وفي جهودها لبناء نقابات كفاحية غير بيروقراطية موجهة نحو الإضرابات العامة الثورية.

 ويوضح الفصل الثامن تأسيس الاتحاد الجماهيري بقيادة الأناركيين، الكونفدرالية، في عام 1910 وانتصاره الكبير في إضراب كانادينكا الذي استمر ستة أسابيع في عام 1919. استجاب أرباب العمل لقوة الحركة الثورية من خلال تنظيم فرق قتلت المئات من هؤلاء، نشطاء الكونفدرالية.

  الجمهورية الثانية ودكتاتورية فرانكو

 يركز الفصل التاسع على الجمهورية الثانية، المُعلنة في 14 إبريل/نيسان 1931، التي استعادت فيها كاتالونيا حكمها الذاتي. اندلعت الثورة الإسبانية رداً على الانقلاب العسكري في 18 يوليو/تموز 1936. ويناقش الفصل العاشر هذه الثورة والثورة المضادة التي قادها الحزب الشيوعي وهزيمة الحرب الأهلية عام 1939. يبين المؤلف أن كومونة باريس عام 1871 والثورة الروسية عام 1917 هما الثورتان العماليتان الأخريين، لكن الثورة الإسبانية حدثت في الدولة الأكثر تقدماً. وكانت كاتالونيا هي المكان الذي حدثت فيه أكثر التغييرات الاجتماعية عمقاً وأبعد مدى. ويوصي المؤلف القراء بالاطلاع على كتاب «الحنين إلى كاتالونيا» للروائي جورج أورويل وكيفية هزيمة الثورة خلال سيرته القتالية خلال شهور مع ميليشيات حزب العمال الماركسي وأيام من مايو/أيار 1937، مذكراً أن أورويل لم يظهر في بعض النقاط فهماً عميقاً لكاتالونيا.

 يناقش الفصل الحادي عشر السنوات المريعة لدكتاتورية فرانكو (1939-1977)، التي تعاملت مع كاتالونيا على أنها أرض محتلة، وحلّت جميع المؤسسات الكاتالونية وحظرت اللغة في عملية إعادة أكثر شراسة من عام 1714. كانت مقاومة فرانكو طويلة وشديدة. في السبعينات، أجبرت الطبقة العاملة الجديدة المنظمة في المصانع والأحياء الطبقة الحاكمة على تفكيك الديكتاتورية. يقترح الفصل كيف يمكن للحركات الجماهيرية أن تحقق تفاهمات أفضل للطبقة العاملة.

 يركز الفصل الثاني عشر على طبيعة ديمقراطية ما بعد فرانكو وحركة الاستقلال التي ازدهرت بعد عام 2009 لتحدي دولة إسبانية جامدة. يقول المؤلف فيه: «ينكر المركزيون الإسبان أن كاتالونيا أمة مستقلة. هذا هو التبرير الأساسي لرفض الأحزاب السياسية الرئيسية في إسبانيا السماح بإجراء استفتاء على الاستقلال، أو حتى مناقشة إمكانية إجراء استفتاء. إنهم يدافعون عن هذا التعنت عبر تشويه التاريخ. إن أوضح حيلة هو الإصرار على أن كاتالونيا لم تكن أبداً دولة مستقلة، حيث كانت في العصور الوسطى جزءاً من تاج أراغون، وبالتالي فتوحات البحر الأبيض المتوسط والنجاحات التجارية كانت أراغونية، وليست كاتالونية. قد تبدو مثل هذه الحجج متجددة. يقال لنا إن المرء لا يستطيع أن يبني كفاحه اليوم من أجل الاستقلال على التاريخ القديم. ومع ذلك، فإن التاريخ حي في الذهن، خاصة لمن يعانون ضربات المطرقة. سنوات 1641 و1714 و1939 هي تواريخ منقوشة بالدماء على الأدمغة الكاتالونية، عندما ذبحت الدولة الإسبانية عشرات أو مئات الآلاف ودمرت التطلعات الكاتالونية إلى الحرية».


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version