كرم سعيد *
دخل المناخ مرحلة الشحن بين الجزائر وفرنسا خلال الفترة الماضية على خلفية عدد من القضايا الخلافية، ظهر أخطرها في أكتوبر/تشرين الأول 2021 بعد أن شكك ماكرون في وجود «أمة جزائرية» قبل الاستعمار الفرنسي، واتهم النظام الجزائري باستغلال ملف الذاكرة لأغراض سياسية.
تعد الخلافات المتعلقة بالذاكرة والاستعمار الفرنسي الذي دام 132 سنة (1830-1962) ذات حساسية خاصة، حيث تطالب الجزائر الحكومة الفرنسية بتقديم اعتذار عن حقبة الاستعمار، واسترجاع جماجم قادة الثورات الشعبية الموجودة ب«متحف الإنسان» بالعاصمة الفرنسية باريس، فضلاً عن طلب جزائري بتعويض ضحايا التجارب النووية، التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية في ستينات القرن الماضي. كما تصاعد التوتر في سبتمبر/أيلول الماضي منذ خفضت فرنسا عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف بدعوى عدم تعاون الجزائر في إعادة مهاجريها غير النظاميين.
في هذا السياق جاءت زيارة إليزابيث بورن رئيسة وزراء فرنسا برفقة نحو نصف حكومتها للجزائر في 10 أكتوبر/تشرين الأول الحالي لإعطاء زخم جديد، وربما ملموس لتعزيز المصالحة التي بدأتها باريس بعد تصاعد حدة القضايا الخلافية مع الجزائر، وانعطافة الأخيرة نحو تطوير العلاقات مع موسكو والصين، وهنا يمكن تفسير تصريحات بورون عشية وصولها للجزائر، حيث قالت «لقد ولى زمن سوء التفاهم» بين باريس والجزائر، كما وضعت خلال زيارتها إكليلاً من الزهور في «مقام الشهيد» الذي يخلد قتلى حرب الاستقلال (1954-1962) في مواجهة المستعمر الفرنسي، في العاصمة الجزائرية.
توقيع 11 اتفاقية
في المقابل سعت إليزابيث بورن خلال زيارتها، إلى إجراء مباحثات حول معالجة الملفات الشائكة، فضلاً عن إحداث تقدم في العديد من الملفات المشتركة بين البلدين، وتجلى ذلك في التوقيع على عدد من الاتفاقيات في التعاون العملي والثقافي، وكذلك التوقيع على 11 اتفاقية تعاون بين الحكومتين الجزائرية والفرنسية، مست عدداً من القطاعات في مجالات الصناعة والتكنولوجيا، والمؤسسات الناشئة والابتكار، والفلاحة، والتعليم العالي والبحث العلمي، والعمل والتشغيل، والسياحة والصناعة التقليدية، إضافة إلى تأكيد البلدين على تعزيز إعلان الجزائر الموقع في أغسطس /آب الماضي، من أجل شراكة متجددة بين الجزائر وفرنسا، وهو الإعلان الذي يستهدف توطيد العلاقات بين الدولتين في مجالات متعددة، وعلى الصعيد السياسي، فقد وصفت الزيارة بالتاريخية، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة صراحة، حيث أكد أن زيارة بورن «فتحت صفحة جديدة بين البلدين».
البحث عن الغاز
وثمة العديد من الدوافع تقف وراء زيارة رئيسة وزراء فرنسا، وهي الزيارة، التي أسفرت عن تحقيق اختراق كبير في جدار الأزمات المشتعلة بين البلدين، وترطيب مساحات التوتر مع الجزائر، وتعزيز العلاقات الثنائية، والقفز على القضايا الخلافية، وظهر ذلك في نجاح بورن في الاتفاق على دفع العلاقات في مجال الطاقة مع الجزائر، خاصة في ظل مساعي باريس لتعويض نقص الإمدادات من الغاز الطبيعي، وتأمين احتياجاتها من مصادر الطاقة، وذلك بفعل نقص إمدادات الطاقة في القارة الأوروبية، ومنها فرنسا بطبيعة الحال؛ بعد تصاعد الحرب في أوكرانيا، وتهديد روسيا بقطع صادراتها من الطاقة إلى أوروبا. ويحظى الغاز الجزائري بأولوية استراتيجية على الأجندة الفرنسية نظراً لاعتبارات عدة، منها تصاعد مخاوف باريس، التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، واتجاه موسكو للرد على العقوبات الغربية بقطع الغاز. وقد زاد من حدة هذه المخاوف تعرض خطى «نورد ستريم 1» و«نورد ستريم 2» لأضرار كبيرة بعد التفجير الذي استهدفه في 26 سبتمبر/أيلول الماضي.
وفي هذا السياق، فإن قطاع الطاقة مثل مدخلاً لمعالجة التوتر بين البلدين، خاصة أن رئيسة وزراء فرنسا، أكدت حرص حكومتها على تعزيز الاستثمار في صناعة الغاز والطاقة المتجددة في الجزائر، كما بحثت بورن فرص توسيع عمل شركات التنقيب عن النفط والغاز، وتوقيع اتفاقيات تتعلق بزيادة الإمدادات. ومن جهتها تسعى الجزائر إلى الاستفادة من ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً لتأمين عقود كبيرة ومشاريع استثمارية بغية تأمين الإيرادات، التي ستساعدها على تجاوز أي تحديات قادمة.
بالتوازي مع ذلك، تم الاتفاق بين البلدين على تطوير ودعم العلاقات التجارية، فقد حظي الملف الاقتصادي باهتمام بالغ من رئيسة الوزراء الفرنسية، لا سيما أن باريس باتت تستشعر القلق بعدما انحرفت بوصلة الجزائر باتجاه الصين بشكل صريح، بعد أن كانت إلى وقت قريب تيمم وجهها فقط تجاه فرنسا، وقد تمكنت بكين من سحب البساط من تحت أقدام باريس، التي كانت صاحبة النفوذ اقتصادياً وتجارياً، لتحتل الصدارة أولاً شريكاً تجارياً للجزائر.
لذلك استهدفت زيارة رئيسة الوزراء الفرنسية بالأساس تعزيز وجودها الاقتصادي في الجزائر؛ واستعادة موقعها كأكبر مورد للجزائر، حيث تقدر الواردات الفرنسية إليها بنحو (3.4) مليار دولار؛ وذلك بنسبة (10%) من إجمالي الواردات الوافدة إلى الأسواق الجزائرية. وهنا، يمكن حرص إليزابيث بورن التي رافقها خلال زيارة الجزائر نحو 70 شركة فرنسية من جميع الأحجام على إعادة زخم العلاقات الاقتصادية مع الجزائر.
خلف ما سبق، فإن زيارة رئيسة الوزراء الفرنسية لا تنفصل عن سعي حكومتها لمعالجة قضية التأشيرات، التي تعد إحدى النقاط ذات الاهتمام المشترك بين الدولتين، خاصة بعد قرار فرنسي في سبتمبر/أيلول الماضي، بتخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لدول المغرب العربي، ومنها الجزائر بنسبة 50 في المئة، ومثلت هذه القضية تحدياً في مسارات العلاقات الثنائية، وأسهمت في تعقيد المشهد الفرنسي الجزائري.
ختاماً، فإن زيارة رئيسة وزراء فرنسا للجزائر نجحت في تهدئة الخلاف،وترسيخ المصالح المشتركة، كما طرحت الرؤية المستقبلية لعلاقة البلدين والتي سترتكز على التوجه نحو حل القضايا العالقة تدريجياً لتجاوز التوترات القائمة.
* كاتب مصري