د. محمد فراج أبو النور*

أخيراً.. وبعد مرور عام كامل على الانتخابات البرلمانية، تمكن مجلس النواب العراقي من عقد جلسة له بالنصاب اللازم دستورياً لانتخاب رئيس الجمهورية يوم الخميس الماضي (13 أكتوبر)، وتم انتخاب عبداللطيف رشيد رئيساً بأغلبية (169 صوتاً) مقابل (99 صوتاً) حصل عليها الرئيس المنتهية ولايته برهم صالح.

بعد نهاية الجلسة قام الرئيس المنتخب بتكليف محمد شياع السوداني مرشح «الإطار التنسيقي» بتشكيل الحكومة الجديدة خلال ثلاثين يوماً حسبما ينص الدستور.

واعتبر مراقبون كثيرون أن هذه الخطوة – التي طال انتظارها – تفتح الطريق أمام مرحلة حل الأزمة السياسية المستحكمة، التي عصفت بالعراق طوال عام بأكمله، حفل بالمناورات الحزبية والصراعات السياسية والتحركات والصدامات الجماهيرية، في ظل حالة من «الانسداد السياسي» الذي لم تكن تبدو له نهاية.

وضع شاذ

لكن الحقيقة أن هذه الاستنتاج يبدو متعجلاً، لأن عناصر اشتعال الأزمة السياسية مجدداً في أي وقت لا تزال قائمة. فنحن أمام برلمان لا يعبر إطلاقاً عن حقيقة علاقات القوى السياسية والجماهيرية في العراق، لأن استقالة أعضاء التيار الصدري – الذي فاز بالأكثرية في الانتخابات (73 نائباً) والذي يمثل القوة الجماهيرية والسياسية الأولى في البلاد، قد أتاح احتلال مقاعد نيابية لمرشحين لم يكونوا فائزين بثقة الناخبين أصلاً، وإنما تم تصعيدهم بعد استقالة النواب الصدريين. وهذا وضع شاذ ترتب عليه انتقال وضع «الأكثرية» البرلمانية إلى الإطار التنسيقي، الذي أصبح بوسعه قانوناً تقديم مرشحه محمد شياع السوداني، لتشكيل الحكومة، ونظراً لغياب التيار الصدري، فقد أصبح بوسع السوداني – نظرياً على الأقل – أن يحصل على أغلبية الأصوات ويشكل الحكومة، وهو ما لم يكن ممكناً في ظل وجود الصدريين وتحالفهم مع الحزبين السنيين الكبيرين، والحزب الديمقراطي الكردستاني.

عداء قديم

معروف أن التيار الصدري، يرفض بشدة تولي شياع السوداني رئاسة الحكومة؛ إذ يعتبره صنيعة لنوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق، وزعيم «ائتلاف دولة القانون» الذي يمثل ركيزة الإطار التنسيقي، وأحد زعماء حزب الدعوة الموالي لإيران.

ومعروف كذلك أن النواة الصلبة للأغلبية البرلمانية التي تستند إليها حكومة السوداني هي مجموعة الأحزاب المرتبطة بالميليشيات المسلحة، بينما يمثل التيار الصدري التوجه الأقرب إلى الاعتدال في صفوف الشيعة، ويرفض التبعية لإيران، ويتسم بنزعة عروبية، ويدعو إلى علاقات متوازنة بين العراق وجيرانه، كما يدعو إلى حصر السلاح بيد الدولة وإلى مكافحة الفساد، ودعم الفقراء والمهمشين.. ومثلت جماهيره القوة الأساسية في (انتفاضة تشرين 2019) التي أطاحت بحكومة عادل عبدالمهدي، وشاركت فيه جماهير السنة على نطاق واسع، فضلاً عن المثقفين الوطنيين والليبراليين.

الصراع مستمر

كل هذه الاعتبارات تجعلنا نتوقع أن يستمر الصراع بين التيار الصدري من ناحية وحكومة السوداني والأحزاب والميليشيات الداعمة له، خاصة أن من المشكوك فيه بشدة أن تلتزم هذه الأحزاب بسرعة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وهو الأمر الذي كان محل توافق في جولات الحوار الوطني، التي دعا إليها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي خلال الفترة الماضية، وقد رأينا كيف حاولت تلك الأحزاب التشبث بالسلطة بعد انتفاضة تشرين، بحيث لم يتم تشكيل حكومة الكاظمي إلا في (يونيو 2020).. ثم كيف عطلت إجراء الانتخابات البرلمانية «المبكرة» حتى (أكتوبر 2021).. ثم كيف عطلت انعقاد البرلمان بنصابه الدستوري لانتخاب رئيس الحكومة وتكليف رئيس للحكومة لمدة عام كامل.. وكيف دفعت عناصرها لاستخدام العنف ضد تظاهرات الصدريين في أواخر أغسطس/آب، ما أدى إلى مصرع نحو ثلاثين منهم.. ورأينا تمسكهم بترشيح السوداني لرئاسة الحكومة على الرغم من معارضة أكبر تيار سياسي في البلاد له.

مرحلة عدم الاستقرار

وإن كان الصدام بين التيار الصدري وحكومة السوداني – حال تشكيلها – أمراً متوقعاً، فإننا لا نستطيع أن نعتبر نجاح السوداني في تشكيل الحكومة أمر بديهياً. فالأحزاب والميليشيات الطائفية، التي تمثل نواة التحالف الداعم للحكومة، كلها لديها أطماع في المناصب والمغانم التي تتيحها المواقع في السلطة بحكم «الفساد المؤسسي» المتجذر في العراق والذي تمتعت تلك القوى بثماره منذ الغزو الأمريكي للعراق. وهذا الصراع على المناصب والمغانم يمكن أن يمثل مشكلة حقيقية أمام تأليف الحكومة في المهلة الدستورية المقررة «ثلاثين يوماً».

ومن ناحية أخرى، فإن «الاستقواء» الذي يتصرف به زعماء الإطار التنسيقي، وخاصة المالكي، وعدم إدراك طبيعة المتغيرات التي شهدها العراق منذ انتفاضة (أكتوبر/تشرين الأول 2019) وتطورات علاقاته الإقليمية هي أمور يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة مع القوى السنية والكردية الداخلة في تشكيل الحكومة، سواء من ناحية توزيع المناصب، أو من ناحية سياسات هذه الحكومة وعلاقاتها الإقليمية والدولية.

وعلى سبيل المثال، فإن حكومة الكاظمي، قد حققت نجاحاً لا بأس به في ضبط الأوضاع الاقتصادية ومكافحة الفساد، كما حققت إنجازات ملموسة في إقامة علاقات متوازنة في علاقاتها الدول العربية، وخاصة مصر والسعودية والإمارات والأردن وهي إنجازات تمت ترجمتها إلى اتفاقات وإجراءات إيجابية.. وكل هذه القضايا ستكون مجالاً للاختلاف والاحتكاك في البرلمان والحكومة، خاصة مع تكرار انتهاك إيران للحدود العراقية في الفترة الأخيرة.

وبناء على ذلك كله، فإن عناصر التأزم وعدم الاستقرار تظل موجودة في صلب المعادلة السياسية العراقية، سواء نجح السوداني في تشكيل الحكومة أو جاء غيره من ممثلي الأحزاب.

خطأ الصدر.. وتعقيد الأزمة

والحقيقة أن قرار الصدر باستقالة كتلته من البرلمان كان قراراً خاطئاً، أهدى الأكثرية – ومن ثم السلطة – للقوى الطائفية على طبق من فضة، ومثل خذلاناً لحلفائه في مجلس النواب.. وأتاح للإطار التنسيقي وقتاً إضافياً للحكم، وهو وقت ضائع من عمر الشعب العراقي، ولا ينفي ذلك صواب قراره بعدم المشاركة في حكومة السوداني أو غيره من شخصيات الإطار، بالطبع ويظل ضرورياً أن يعمل بالتنسيق مع القوى السياسية المعارضة داخل وخارج البرلمان لإجراء الانتخابات المبكرة في أقرب وقت ممكن وحشد القوى من أجل إسقاط التيار الطائفي المتطرف.. كما يظل إسقاط الطائفية في العراق هو الحل الحقيقي لأزماته السياسية المتوالية.

*كاتب مصري


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version