د. محمد فراج أبو النور*
الصراع على النفوذ بين الميليشيات الإرهابية في شمال غربي سوريا، وخاصة في ريف حلب الشمالي دخل مرحلة جديدة بسيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) على مدينة عفرين الاستراتيجية شمال غربي حلب قبل أن تنسحب منها بناء على أوامر تركية وأمريكية.
كانت «النصرة» قد استغلت الصراع على النفوذ وتصفية الحساب بين فصيلين صغيرين من فصائل ما يسمى ب«الجيش الوطني السوري» المنتشر في ريف حلب الشمالي، وبين فصائل أخرى تنتمي إلى الفيلق الثالث من نفس الجيش «الجبهة الشامية، وجيش الإسلام، وفصائل أخرى» لتتدخل في الاشتباكات وتدفع قواتها للسيطرة على مدينة عفرين الاستراتيجية، ثم تندفع منها في محاولة للسيطرة على مناطق أخرى، أهمها مدينة اعزاز، قبل أن تفرض القوات التركية وقف إطلاق النار.
ومعروف أن «هيئة تحرير الشام» هي أكبر الفصائل الإرهابية في سوريا، وتسيطر على الجزء الأكبر من محافظة إدلب وعلى معبر باب الهوى الذي تتدفق عبره المساعدات الأممية إلى سوريا، ويبلغ عدد قوات الهيئة نحو 30 أف مقاتل إرهابي متمرسين بالقتال، وعقائديين، ولديهم تسليح ممتاز وتمويل سخي، كما أن لديها إدارة مدينة منظمة تحمل اسم «حكومة إنقاذ» تدير الجزء الأكبر من محافظة إدلب، وتتطلع الهيئة لبسط نفوذها على ريف حلب الشمالي، المحاذي لكل من محافظة إدلب، والحكومة التركية.
الصراع على النفوذ
وهيئة تحرير الشامل هي نفسها «جبهة النصرة/ فرع القاعدة في سوريا» والمصنفة دولياً منظمةً إرهابية، لكنها غيرت اسمها بعد أن اتحدت مع بعض المنظمات الإرهابية الصغيرة، مع الاحتفاظ بقيادتها وكل مقوماتها، وتحت زعامة نفس الإرهابي المعروف «أبو محمد الجولاني».
بينما ينتشر في مواجهتها ما يسمى ب«الجيش الوطني السوري» الذي يشار إليه إعلامياً باسم «المعارضة السورية المعتدلة» أحياناً.. وهو يتكون من عشرات الفصائل أغلبها ذات منشأ إرهابي عقائدي تتوزع على ثلاثة فيالق. وعلى الرغم من أن «الجيش الوطني السوري» يدين بالولاء لتركيا، مثله في ذلك مثل «النصرة» فإن تعدد فصائله وتنافسها على النفوذ والموارد، يضعف قوتها، ويتسبب بعدم الاستقرار الأمني في منطقة انتشاره. وجدير بالذكر أن جزءاً من قوات هذا الجيش ينتشر في الشريط الحدودي الذي استولت عليه تركيا والممتد بين رأس العين وتل أبيض في «محافظتي الرقة والحسكة» شرقي الفرات، في مواجهة قوات «قسد» ومنطقة السيطرة الكردية.
وبناء على هذه الأوضاع، فإن جبهة النصرة، ترى نفسها أحق بالسيطرة على منطقة ريف حلب الشمالي، المحاذية مباشرة لمنطقة سيطرتها الرئيسية في إدلب.
تركيا والمتغيرات الدولية
مع اشتعال الحرب في أوكرانيا وانشغال كل من روسيا والولايات المتحدة بها، رأت تركيا أن الفرصة سانحة للعودة إلى خطتها القديمة باحتلال منطقة الحدود السورية – التركية بعمق (30-40 كم) والقضاء على الكيان الكردي في شرقي الفرات، لكنها اصطدمت برفض أمريكي وروسي مزدوج، وإن اختلفت الأسباب بالطبع، فأمريكا لا تريد التخلي عن حلفائها الأكراد، وروسيا لا تريد احتلال مزيد من الأراضي السورية، وفي المقابل فقد بدأت موسكو تحركاً دبلوماسياً للتقريب بين دمشق وأنقرة، وهو ما يمثل ضغطاً على الأكراد لكبح جماح تطلعاتهم الانفصالية المحكوم عليها بالفشل.
غير أن تركيا – كما هو واضح تماماً – قررت الاستفادة من الانشغال الروسي في الحرب، ومن تشابك المصالح الكبير، لتعزيز وجودها في إدلب بخلاف الاتفاقات القديمة مع موسكو ولتدعم أوضاع هيئة تحرير الشامل «النصرة» في المناطقة ولتستفيد من الوجود المنظم والمستقر للجبهة، في بسط نفوذ أكثر استقراراً ورسوخاً في الشمال السوري، بما في ذلك من تقليم أظافر بعض التنظيمات غير المنضبطة في «الجيش الوطني السوري» ك«الجبهة الشامية» و«جيش الإسلام»، اللذين أنزلت بهما «النصرة» ضربة قوية في عفرين وأريافها.
تأكيد سيطرة النصرة في إدلب، وتمددها في مناطق شمال غربي سوريا بهياكلها العسكرية والتنظيمية القوية من شأنه أن يعزز موقفها «وموقف تركيا» التفاوضي في أية تسوية، ويضع تعقيدات جدية أمام جهود تحرير المنطقة.
ومن ناحية أخرى، فإن ضمان هذه السيطرة تتيح إمكانية نقل أجزاء من «الجيش الوطني السوري» إلى الشريط المحتل في شرق الفرات في مواجهة الأكراد.
هذا هو التفسير المقبول منطقياً للتساهل الواضح من جانب أنقرة تجاه تحركات «النصرة» خارج إدلب، وإتاحة الفرصة لها لاحتلال عفرين، ثم التقدم منها في اتجاه «اعزاز» ومناطق «الجيش الوطني» الأخرى، قبل إصدار الأمر لها بالانسحاب، وتشير تقارير إعلامية إلى أن «النصرة» تركت خلفها وحدات أمنية وإدارية في عفرين.. تمهيداً لعودة لاحقة.
مشكلة اللاجئين السوريين
أحد أهم أسباب رغبة تركيا في فرض سيطرة أمنية مستقرة في مناطق الشمال السوري هي مشكلة ملايين اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا «نحو 4 ملايين وفق أرجح التقديرات».
فقد أصبح هؤلاء اللاجئون يمثلون مشكلة كبيرة لتركيا، بعد أن تخلت أوروبا عن تقديم الدعم لأنقرة لمساعدتها على تدبير شؤون إقامتهم وإيجاد فرص العمل لهم وتعليمهم وعلاجهم.. إلخ.. وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تسبب فيها وباء كورونا، والتي فاقمتها الحرب الجارية في أوكرانيا، أصبح العبء الذي يمثله اللاجئون السوريون شديد الوطأة على الاقتصاد التركي، كما أصبح دخول اللاجئين مصدراً للتوتر الاجتماعي، وتزايدت حوادث التحرش بهم والاعتداء عليهم بصورة كبيرة، ومن ثم أصبح مطلوباً إعادتهم إلى سوريا في أسرع ما يمكن مع التخلي عن الشروط التي كانت تركيا ودول الاتحاد الأوروبي تضعها لهذه العودة.
وتمثل المناطق الحدودية في شمالي سوريا، خاصة في ريف حلب الشمالي المكان الأنسب لعودة وتوطين هؤلاء اللاجئين، فهي مناطق أكثر تطوراً من شرق الفرات من الناحية الاقتصادية. كما أنها ترتبط بتركيا بشبكة واسعة من الطرق، ومن العلاقات التجارية التي تمت إقامتها خلال الفترة الماضية، وبالتالي، فإن هذه المناطق بعد عودة اللاجئين إليها ستمثل نوعاً من الامتداد للأراضي التركية، لكن هذا يتطلب الاستقرار بالطبع. وهو ما تتصور أنقرة من أن «النصرة» يمكن أن توفره بالتعاون معها، بصورة يصعب توافرها في ظل صراع فصائل الإرهابيين والمرتزقة الصغيرة والمتناحرة.
* كاتب مصري