لم يعد من المقبول في السياسة الدولية الحديثة أن يفعل القوي ما يحلو له وأن ينفّذ الضعيف ما يتلقاه من إملاءات. يحاول هذا الكتاب أن يقدم رؤية جديدة في النظرة الواقعية السياسية على مدى قرن من الزمان من خلال العلاقة بين الولايات المتحدة وألمانيا، ويفكك الروايات المتعلقة بالمصالح الوطنية والسياسة الواقعية وتأثيرها في السياسة الدولية بشكل عام.

يقدم المؤرخ الفكري ماثيو سبكتر تفسيراً جديداً وجريئاً ل «الواقعية»، وهو موقف سائد في السياسة الخارجية والخطاب العام للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ونظرية العلاقات الدولية السائدة خلال الحرب الباردة. يتحدى سبكتر وجهة النظر العامة للواقعية مجموعةً من الحقائق الملزمة عالمياً على مستوى الشؤون الدولية، ويجادل بأن سماتها الرئيسية نشأت من حوار دام قرناً بين المثقفين الأمريكيين والألمان في أواخر القرن التاسع عشر. يكشف سبكتر عن «الواقعي الأطلسي» بغية التفكير في امتيازات الإمبراطورية وطبيعة سياسات القوة المشروطة بمنافسة نهاية الحرب الإمبريالية، وحربين عالميتين، والهولوكوست، والحرب الباردة.

 إعادة قراءة تاريخية

 يعد هذا الكتاب، الصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة في 2022، إعادة بناء تاريخية، لكنه مدفوع بالتطلع إلى عالم لم يعد من المقبول أن يقوم القوي بما يحلو له وأن ينفّذ الضعيف ما يتلقاه من إملاءات. يحاول المؤلف بناء أو طرح فكرة المدينة الفاضلة الواقعية وهو أمر يراه يتجاوز حدود هذا الكتاب، لكنه يضع هذه الآمال في الاعتبار عند الكتابة.

 يقول الكاتب في مقدمته: «تعرفت في الثمانينات إلى الواقعيين وأفكارهم في ندوة للطلاب الجدد حول الأخلاق والسياسة الخارجية مع جوزيف ناي. في الساعة الواحدة ليلاً، بدأت بالعمل على لوحة مفاتيح الجيل الأول من جهاز كمبيوتر خاص بي، وكتبت: «ما هي المصلحة الوطنية؟ هل هي نوع من الأسطورة؟ لقد تضخمت شكوكي حول الوضع الطوطمي لفكرة الاهتمام الوطني من خلال قراءتي لكتاب نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان، ثم نوع من أدب الساميزدات للمنقشين السوفييت. قادني ظل الكارثة النووية إلى احتجاجات التجميد النووي في سنترال بارك في عام 1982، ثم لعدة سنوات بصفتي ناقداً وناشطاً ضد سياسة ريغان الخارجية في جنوب إفريقيا ونيكاراغوا والسلفادور. كسرت تسمية الولايات المتحدة كإمبراطورية المحظورات العامة التي كانت موجودة في الأكاديمية وفي التيار السياسي السائد في الثمانينات. لجأت إلى النظرية الاجتماعية الفرنسية والألمانية للمساعدة على فهم حرب أمريكا الباردة في عهد ريغان. ألهمتني هذه المفاهيم النظرية للتركيز في دراساتي الجامعية على التاريخ الفكري. طالباً دكتوراه في التاريخ الفكري الأوروبي في جامعة ديوك، عانيت الصدمات الوطنية لبوش ضد آل غور في عام 2000، وغزو العراق في عام 2003، والتجاوزات التي ارتكبها الأمريكيون تحت مسمى الحرب على الإرهاب. لقد سعيت في كتابي السابق إلى إعادة بناء النظرية القانونية والسياسية والاجتماعية ليورغن هابرماس التي تدعم رؤيته الليبرالية لنظام عالمي قائم على الالتزامات المشتركة للديمقراطية وحقوق الإنسان. يمكن انتقاد هذه الرؤية باعتبارها اللحظات الأخيرة لمفهوم مركزي أوروبي للعقل العام أو أنها تتدخل في أيديولوجية هيجل اليمينية للإمبراطورية الأمريكية. ولكن مثلما قضيت العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في انتقاد السياسة «الشميتية» (نسبة إلى كارل شميت) لجورج دبليو بوش والمحافظين الجدد لمشروع قرن أمريكي جديد، أعربت في نفس الوقت عن شكوكي تجاه انتقادات «اليساريين الشميتين» لرؤية هابرماس للسلام والعدالة، وحقوق الإنسان بموجب القانون. على أي حال، ما زلت أفضل أن نعمق هذا المشروع غير المكتمل من خلال النقد الجوهري بدلاً من رفضه تماماً».

 استبداد الواقعية على الخيال السياسي

 يتناول المؤلف العديد من المفكرين الذين يعدون الأبطال الرئيسيين في الفصول المرتبة ترتيباً زمنياً: فريدريك راتزيل وماكس ويبر وبول رينش وأرشيبالد كوليدج وألفريد ماهان (الفصل الأول)؛ كارل هوشوفر، إشعياء بومان، وإلين سمبل (الفصل الثاني)؛ كارل شميت (الفصل 3)؛ فيلهلم غريوي (الفصل الرابع)؛ هوشوفر وبومان (مرة أخرى)، إدموند ج. والش، نيكولاس سبيكمان (الفصل 5)؛ هانز مورغنثاو (الفصل 6)؛ مورغنثاو وغريوي (مرة أخرى) وإرنست أوتو تشيمبيل وهانس بيتر شوارتز (الفصل 7).

 لماذا يصف الكتاب الولايات المتحدة وألمانيا بأنهما الممثلان الرئيسيان لمفهوم واقعي يُنظر إليه على أنه «أطلسي»؟ يقول المؤلف: «يمكن كتابة دراسات مقارنة لبريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى أيضاً؛ إذ ثمة شخصيات بريطانية وفرنسية مهمة، مثل إي إتس. كار وريموند آرون، اللذان يمكن أن يثريا دراسة الواقعية عبر الأطلسي. لكن الحوار المكثف بشكل خاص بين المفكرين الأمريكيين والألمان لم يتكرر في التبادلات الأنغلو – أمريكية أوالبريطانية الفرنسية أو الفرنسية الألمانية.. ومع ذلك، فإن الاعتراف بالخصوصية الثقافية للتوليفة الأمريكية الألمانية هو خطوة رئيسية واحدة نحو إضفاء الطابع الإقليمي على تقليد رئيسي في التاريخ الفكري الغربي، وهو أمر مهم في خدمة منظور يتسم بتعددية وعالمية أكثر حول المشكلات العالمية.

 يتناول هذا الكتاب الأسئلة التي يتم تناولها ضمن عناوين «سياسات القوة العظمى» و«الجغرافيا السياسية»، لكنه يختلف عن الكتب الأخرى من خلال الاستفسار عن كيفية ظهور هذه الفئات في المقام الأول، وإعادة بناء نشأة ومسار المفاهيم المرتبطة بالواقعية على المستوى الفكري العالمي. كما يبحث عن أصول، وتطور، وتحول الأفكار التي وصفها بوعي ذاتي بأنها «واقعية» أو متشابهة على أنها «واقعية» من قبل السياسيين والمفكرين والجيش والديمقراطيات المدنية في الولايات المتحدة وألمانيا على مدار قرن.. يقدم المؤلف وصفاً لكيفية تحقيق الواقعية، والفلسفة العامة للسلطة وممارستها مكانة مهيمنة في الخيال السياسي لديمقراطيات شمال الأطلسي، والصدى العالمي الذي خلفته وراءها. يجد أن الواقعية تقليد فكري ذو أهمية عالمية، لكن ليس للأسباب التي تُعطى عادة. فهي ليست مخزناً ل«الحكمة» التاريخية المتراكمة، لكنها بالأحرى قطعة أثرية تاريخية – والتي، بشكل مأساوي، مارست الكثير من القوة على السياسة العالمية.

 وفي رأيه، يعيد هذا الكتاب بناء الكون العقلي للواقعيين من أجل تخفيف تعويذتهم، قائلاً: «نجح الواقعيون الأطلسيون بما يتجاوز أحلامهم الجامحة في تحويل التاريخ المحلي إلى تاريخ عالمي. لقد حوّلوا الواقعية من نوع أوروبي من حديث الإمبراطورية إلى الفطرة العالمية للمجال الدولي. إن تأريخ هذا الحس السليم، وإخضاعه لنقد معياري وسياقي صارم، يمكن أن يساعدنا على تحرير أنفسنا من استبداد الواقعية على الخيال السياسي».

 أزمة أمنية عبر الأطلسي

يوضح المؤلف أننا نعيش فترة أزمة في العلاقة الأمنية عبر الأطلسي التي ربطت الولايات المتحدة بألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. قائلاً: «إنها ليست الأزمة الأولى ولن تكون الأخيرة. لكن خصوصيات هذه الأزمة بالذات تتضح من خلال مناقشة الواقعية الأطلسية في هذا الكتاب. عندما بدأت حملة ترامب الرئاسية بالتحدث في عام 2016 عن «أمريكا أولاً»، كانت هناك إيماءة تاريخية تبرز عن قصد في ألمانيا؛ إذ ظهرت نزعات تعود إلى ما قبل انتصار «العولمة» و«الأمميين الليبراليين». في حركة «أمريكا أولاً»، لم يكن هناك انزعاج من النزعة القومية للمهاجرين والمدافعين عن الرايخ الثالث في الواقع، لقد أضاف ذلك حيوية إلى منهج ترامب كاسر المحرمات. في ظل إدارته، تعرضت علاقات أمريكا مع جميع حلفائها في فترة ما بعد الحرب للتخريب أو أصبحت عرضة للتدهور. بينما كان ترامب يتحدث عن حلف شمال الأطلسي، بدا أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لديها ادعاء جيد بأنها الزعيمة الحقيقية لما يسمى ب «العالم الحر». مع قرارها المتأخر والمحسوب بقبول أعداد كبيرة من اللاجئين، لم تحترم التزامات ألمانيا بموجب القانون الدولي فحسب؛ بل أكدت أن الجنسية الألمانية لم تعد قائمة على الدم؛ بل أصبحت «الجرمانية» ممكنة من خلال التجنس».

 ويضيف: «في غضون ذلك، تحدّى الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة بقيادة ترامب الضمانات الدستورية للمواطنة التي يعتبرها الحزبان منذ فترة طويلة أمراً مفروغاً منه. لكن عدم التناسق بين اللحظة الثقافية السياسية الحالية الألمانية والأمريكية مجرد وهم. في كلا البلدين، تخضع التعددية الثقافية والديمقراطية الليبرالية لحصار الجماعات «الهوياتية» التي تصر على المستحيل: تحقيق أمة متجانسة، خالية من «الشوائب». تم إعادة صياغة الأقليات على أنها أجنبية وطفيلية، لكن في سعيها لتحقيق النقاء الوطني، فإن الجماعات اليمينية المتطرفة الصاعدة قادرة في الواقع على البناء على الروابط القديمة والجديدة عبر الحدود الوطنية، التي يمتد الكثير منها إلى عقود ماضية. في حين يأس الليبراليون في العالم الأوروبي الأطلسي من الشعبوية غير الليبرالية لدونالد ترامب والأزمة في العلاقات عبر الأطلسي، فإن الجماعات اليمينية المتطرفة على جانبي المحيط الأطلسي تتعلم بنشاط من بعضها. مع غزو العصابات اليمينية شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا، فإن الشرطة الألمانية أصبحت مجبرة على مواجهة التطرف اليميني المتشدد في صفوفها. في ضوء هذه التطورات، اكتشف منظرو الشعبوية السعي وراء «النقاء» مع التجانس العرقي وإغلاق الهوية توقيعاً عليها».

 ويرى أنه «تماماً كما اتفق الأمريكيون الأوائل، ووطنيو حفلات الشاي، وبناة الجدار الحدودي على أن هناك جوهراً أمريكياً خالصاً يجب الدفاع عنه ضد التغيير الديموغرافي، كذلك ترى أحدث النسخ من اليمين الأوروبي المتطرف أن الثقافات المتعددة تفكّك الذات القومية والحضارة الغربية والهوية بشكل عام. بالنسبة لهؤلاء اليمينيين، فإن فكرة أن هوياتنا قد تكون بالفعل هجينة هي فضيحة».

 يشير الكتاب إلى أن الأزمة الحالية في العلاقة عبر الأطلسي توحي إلى معنى أعمق من مجرد الصدام بين الديمقراطية النيوليبرالية والقومية الشعبوية. يرى المؤلف أن هناك تقارباً اختيارياً بين نوع معين من الهوية الوطنية باعتباره مونولوجاً لأغلبية متجانسة إثنياً (مرتبط في الولايات المتحدة بشعور متضائل من البياض الأنجلوساكسوني) والرؤية الواقعية القائلة بأن المصلحة الوطنية يمكن أن يتم تحديدها بشكل متساوٍ. يقول المؤلف: «غالباً ما يجمع الأمريكيون بين إيمان متناقض مفاده بأن حقائقهم عالمية وأن مصدرها في نفس الوقت وطني على وجه الخصوص، أي الأمة الاستثنائية التي تكون مهمتها عالمية. يمكن أن يساعدنا التحقيق على أصول هذه المفارقة على فهم أنه على النقيض من ذلك، لا توجد درجة صفرية من الاهتمام الأمريكي أو التفكير الأمريكي في السياسة الخارجية. بدلاً من ذلك، الفائدة – تماماً مثل الهوية – تبين أنها نتاج عشوائي لعمليات الاقتراض الهائلة. 

 كان الكثير من التفكير الأمريكي حول دورها على المسرح العالمي خلال القرن الماضي نتاجاً للتبادل الفكري عبر الأطلسي. واليوم في حين أن هناك أسباباً وجيهة للتأكيد على «العلاقة الخاصة» بين الديمقراطيات الإمبريالية للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، وقد تم إيلاء الكثير من الاهتمام «للتقاليد الأنغلو-أمريكية» في الشؤون الخارجية، إلا أن هذا الكتاب يؤكد الجانب الألماني الأمريكي في مفهوم الفكر الدولي الذي بناه المفكرون الواقعيون الأطلسيون.


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version