كتب – بنيمين زرزور:
أخيراً، بدأ العالم يسمع ما كان يحب أن يسمعه منذ أشهر عن الحرب في أوكرانيا، وهو الجنوح إلى السلم بعد تسعة أشهر من الحرب المدمرة التي وضعت العالم كله على كف عفريت، فإلى أيّ مدى يمكن أن يتخلى الغرب عن عناده وتصميمه على تقليم أظافر الدب الروسي، ويعزز فسحة الأمل السانحة اليوم في بدء مفاوضات سلام بين موسكو وكييف؟
الجديد على هذا الصعيد ما نشرته صحف أمريكية منها «وول ستريت جورنال»، عن لقاءات تمت بين جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي، وكبار المسؤولين الروس، كان الهدف منها تكثيف الجهود من أجل الحد من مخاطر امتداد الحرب في أوكرانيا، وتوسيع دائرة انتشارها، أو تصعيدها بحيث تزداد احتمالات الدخول في صراع نووي.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين وحلفاء أمريكا قولهم أن سوليفان، كبير مساعدي الرئيس جو بايدن لشؤون الأمن القومي، تحادث سراً، في الأشهر الماضية، مع نظيره نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن الروسي، ويوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي.
ودارت المحادثات التي وردت الأنباء عنها في الوقت الذي اتهم فيه الغرب موسكو بتكثيف الخطاب النووي، بينما اتهم الروس كييف بالتخطيط لاستخدام «قنبلة قذرة».
وقد زار سوليفان العاصمة الأوكرانية، حسب تقرير الصحيفة، وشدّد الضغوط على الرئيس، فلوديمير زيلينسكي، بضرورة القبول بمحادثات سلام مع الروس، وتجنب التصعيد إلى الدخول في مواجهة نووية.
بالونات اختبار
وقد رفضت كل من موسكو وواشنطن التعليق على التقرير. إلا أن تصريحاً صدر عن أحد مستشاري زيلينسكي، وهو ميخائيلو بوزيلياك، يقول إن كييف لم ترفض التفاوض مع موسكو، وهي مستعدة للتفاوض مع رئيس روسيا المستقبلي، وليس مع فلاديمير بوتين، أعاد تقييم فرص السلام لدى المراقبين الذين اعتبروا هذه التقارير والتصريحات ليست أكثر من بالونات اختبار يطلقها كل من الجانبين.
لا شك في أن مثل هذه الأنباء لا تتعدى في تأثيرها نطاق إنعاش الآمال بتحرك ما تمليه الضرورة، في الوقت الذي يزداد التململ من ويلات الحرب وتبعاتها خاصة في الداخل الأمريكي بعد أن تجاوز ما قدمته واشنطن من دعم عسكري لكييف 65 مليار دولار، تضاف إليها خمسون أخرى في طريقها إلى ساحة المعارك، بينما يعاني دافع الضرائب الأمريكي من أزمات متتالية، فاقم من حدتها تصاعد معدلات التضخم وفقدان فرص العمل وسط أنباء عن تسريح آلاف الموظفين في اثنتين من عمالقة التقنية، هما «تويتر»، و«ميتافيرس».
انقسام أمريكي
ومما هو مؤكد أن صناع القرار الأمريكي وزعامات الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، ليسوا على مسافة واحدة من الحرب في أوكرانيا، ذلك أن في كلا الحزبين من هو مؤيد لتقديم المزيد من الدعم لكييف حتى تنجز أهداف الحرب المتثملة في إضعاف روسيا كلياً. كما أن منهم من يعارض استمرار ضخ المساعدات لأوكرانيا والتركيز على خطط الإنفاق الداخلي.
ويبدو أن صقور الإدارة الذين راهنوا خلال الأسابيع الماضية على ما حققته القوات الأوكرانية من نجاحات محدودة في معارك الجنوب، وكانوا من قبل يراهنون على فارق التقنية العسكرية بين الغرب والروس حيث يعتقدون أن آلة الحرب العسكرية الروسية متخلفة ولا تقوى على الصمود والمجابهة، قد خسروا كلا الرهانين، وسط تقارير تحذر من هجوم روسي وشيك بعد استكمال التعبئة، قد يصل الجيش الروسي بعده إلى كييف.
الموقف الروسي
واللافت على ساحة المواجهة الأمريكية الروسية أن يفاجئ إيفغيني بريغوجين، رئيس منظمة «فاغنر» المقرب من بوتين، العالم قبل يومين بالتأكيد على أن روسيا تدخلت في الانتخابات الأمريكية، وسوف تستمر في التدخل على طريقتها الخاصة حتى تستأصل «الكبد والرئتين»، على حد قوله.
وعندما يصدر هذا التصريح وسط حديث غربي عن السلام فلا شك في أنه يوحي بأن الروس مستاؤون من ذلك الحديث، أو أنهم فقدوا ثقتهم بالغرب الذي حرّض كييف منذ البداية على رفض دعوات موسكو للحل السلمي. وقد كرر نائب وزير الخارجية الروسي، أندريه رودنكو، الموقف الروسي حيث قال إنه «ليس هناك شروط مسبقة من طرفنا، باستثناء الشرط الأساسي، هو أن تظهر أوكرانيا حسن النية».
وقد أنكر المسؤول الروسي وجود محادثات مع واشنطن بشأن أوكرانيا، وقال لدى سؤاله عما إذا كانت روسيا تجري محادثات مع الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا «لا، نحن لا نجري مثل هذه المحادثات».
إلا أن تفاعل القضية الأوكرانية على الساحة العالمية، وما خلفته من تعقيدات، كان لها نتائج مباشرة على مجمل القضايا الملحة التي يواجهها العالم.
فعلى الساحة الأوروبية تتعمق شروخ الخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي فقدت إمداداتها من الطاقة مع اقتراب موسم الصقيع، ما يعزز من معاناة الدول الأفقر التي اضطرت لخفض إنتاج القطاعات كثيفة استهلاك الطاقة وزيادة مخصصات الدعم الحكومي للأسر لتغطية فواتير التدفئة. ولعل هذا ما يفسر الاتهامات المتتالية لألمانيا بالأنانية بعد أن خصصت 200 مليار يورو لهذا الغرض، وسط تقارير عن سوء العلاقة مع باريس حليفها الاستراتيجي في مشروع «أوروبا القوية».
وبينما هددت روسيا بوقف العمل باتفاقية تصدير الحبوب بعد الهجوم على جزيرة القرم، تتفاقم أزمة الغذاء في الدول الفقيرة الأمر الذي يستدعي تحركاً عاجلاً لتوفير الإمدادات الغذائية التي باتت رهينة الحرب، وما أسفرت عنه من تحالفات قد تحكم حركة التجارة العالمية مستقبلاً، ولا تقتصر على نقل القمح.
وإذا لم تجد الحكمة لها نصيراً لدى صناع القرار من زعماء العالم الذين امتطوا خطاب الحرية والعدالة والمساواة، فلا بد أن تضيع فرصة السلام الوهمية الحالية، ويدخل العالم في موجة أشد من التحركات العدائية الاحترازية عبر التحالفات العسكرية، مع اشتداد موجة التصعيد العسكري.





