د. محمد فراج أبو النور *

الحديث عن احتمالات عقد قمة بين الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب أردوغان، بوساطة روسية، أصبح في الفترة الأخيرة موضوعاً متواتراً في وسائل الإعلام العالمية. وتوالت تصريحات أردوغان نفسه حول هذا الموضوع بدءاً من إعلانه أنه كان مستعداً للقاء الرئيس الأسد على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند، حتى تصريحاته الأخيرة منذ أيام، والتي قال فيها «إن السياسة لا تعرف الضغينة ولا العداوة المستمرة».

اللافت إلى النظر أن دمشق تلتزم الصمت حول هذه الدعوات المتكررة من جانب أردوغان؛ بل وتشير تقارير عديدة في وسائل إعلام عالمية إلى أن سوريا ترفض الفكرة في الوقت الحاضر على الأقل و«تقاوم المساعي الروسية للوساطة بين الأسد وأردوغان» وترى في «التطبيع» مع أنقرة هدية مجانية لدعم موقف أردوغان في الانتخابات الرئاسية التركية المقررة العام المقبل، وهو ما لا تريده دمشق؛ بل وتتردد سوريا في عقد لقاء على مستوى وزراء الخارجية، على الرغم من الاجتماعات المتكررة بين رئيس جهاز المخابرات السورية اللواء علي المملوك ورئيس جهاز المخابرات التركي حقان فيدان، والتي كان المراقبون يرون أنها تمهد الطريق لاجتماعات بين وزيري الخارجية.

دوافع أردوغان

دوافع الرئيس التركي لمحاولة تطبيع العلاقات مع سوريا (ومصر وبلدان عربية أخرى، مما لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيله) مفهومة تماماً، فقد خسرت تركيا كثيراً من حالة المواجهة التي دخلتها مع العديد من الدول العربية، ما دعا أردوغان إلى السعي لاستعادة علاقاته مع دول الخليج بصفة أساسية، ومحاولة استعادة علاقاته بمصر في عملية لا تزال متعثرة، بغض النظر عن اللقاء الخاطف مع الرئيس السيسي على هامش افتتاح المونديال في قطر.

أما بالنسبة لسوريا، فإن أردوغان – الذي يواجه انتخابات رئاسية صعبة العام المقبل – هو بحاجة إلى تعاون دمشق في مسألة عودة اللاجئين السوريين في تركيا (3.6 مليون) إلى بلادهم. ومعروف أن هذه القضية قد أصبحت سبباً لمشكلات عويصة بسبب انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد التركي، وتفاقم البطالة والتضخم في البلاد والتذمر الواسع من العبء الذي يمثله اللاجئون، وهو ما دفع أردوغان منذ عدة أشهر لطرح خطة لإعادة مليون منهم إلى مناطق الشمال السوري، بدايةً لخطة أوسع لعودة بقية اللاجئين.

مبررات وعقبات

ومن ناحية أخرى، فإن الرئيس التركي أراد أن يستغل انشغال كل من روسيا وأمريكا في الحرب المشتعلة في أوكرانيا لتحقيق خطته القديمة في احتلال «شريط أمني» في الأراضي السورية بعمق (30-32 كم) وعلى امتداد الحدود بين البلدين من الشرق إلى الغرب (حوالي 920كم).. وهو ما يعادل حوالي (30 ألف كم2).. أي قرابة «سدس» مساحة سوريا، لهذا فقد استغل أردوغان التفجير الإرهابي الأخير في إسطنبول (13 نوفمبر الماضي) ليوجه ضربات طيران إلى قوات «قسد» ذات الأغلبية الكردية، التي اتهمها بارتكاب الحادث بالتنسيق مع حزب العمال الكردستاني (التركي).. غير أنه لم يكتف بهذه الضربة الانتقامية؛ بل أعلن عن تنفيذ عملية برية لاحتلال الشريط الأمني المشار إليه، وتوجيه ضربة قاصمة إلى «قسد» والإدارة الكردية، آملاً أن تغمض دمشق عينيها عن العملية، انتقاماً من أنشطة «قسد» الانفصالية؛ بل وداعيا سوريا إلى التعاون معه ضد «قسد»، باعتبارها منظمة إرهابية وظلاً لحزب العمال الكردستاني التركي. وواضح أن كل هذه حسابات معقدة، فلا يمكن أن توافق سوريا على احتلال تركي لمزيد من أراضيها مقابل التخلص من «قسد».. كما أن موسكو وواشنطن قد أعلنتا رفضهما للعملية البرية التركية. وأكدتا أنها ستزيد من زعزعة الأمن والاستقرار في الشمال السوري، وإتاحة مجال أوسع لأنشطة «داعش» الإرهابية، وذلك بغض النظر عن دوافع موقف كل من روسيا وأمريكا.

وعلاوة على ذلك كله، فإن أردوغان يريد من خلال «التطبيع» وتبادل السفراء مع دمشق، تحسين صورته وعلاقاته العربية.

الموقف السوري

بالنسبة لسوريا، فإن الحديث عن «التطبيع» وتبادل السفراء، وقمة الأسد – أردوغان، وما شابهه، أمور لا يمكن لدمشق الموافقة عليها، حتى بفرض وجود ضغوط روسية.

فليس من المتصور أن تقبل سوريا (التطبيع) أو قمة الرئيسين، بينما يتحدث أردوغان طوال الوقت عن عملية عسكرية يحتل من خلالها (سدس) مساحة سوريا.. وفي ظل احتضان تركيا ل«جبهة النصرة» وغيرها من الفصائل الإرهابية المتمركزة في إدلب وريف حلب الشمالي، والتي لا تكف عن ارتكاب جرائمها الإرهابية ضد الجيش العربي السوري وحلفائه، وضد المدنيين السوريين، وكذلك في ظل الدعم العسكري التركي غير المحدود لما يسمى ب«الجيش الوطني السوري» المتمركز في (تل أبيض- رأس العين) والمكون من فصائل يزعم الأتراك أيضاً أنها «معتدلة» وهي كلها إرهابية ومرتزقة.

لذلك من المستبعد عقد قمة من دون أن تسحب تركيا قواتها والمسلحين الذين تدعمهم من كل المناطق المذكورة، والكف عن التهديد بالاجتياح، والعودة إلى «اتفاقية أضنة- 1998» الكفيلة بحماية الحدود التركية من أي نشاط كردي مسلح.

ومن ناحية أخرى فمطلوب من تركيا وقف «حرب العطش» التي تشنها ضد سوريا من خلال احتجاز مياه الفرات خلف شبكة السدود التركية، دون مراعاة لحقوق الشعب السوري التاريخية.

الحسابات الروسية

على الرغم من التعقيدات الشديدة للموقف الروسي فلا نعتقد بأن موسكو ستضغط على دمشق لقبول «التطبيع بشروط أردوغان» أولاً، وقبل كل شيء، لأن هذا يضر بمصالح روسيا الاستراتيجية في سوريا والمنطقة، ويفقدها مصداقيتها، وقد كانت موسكو واضحة تماماً في رفضها للعملية البرية التركية. والعلاقات الروسية – التركية نموذج شديد الخصوصية والبرغماتية، حافل بالمصالح المشتركة والتناقضات الكبيرة والرهانات المعقدة.

لكن روسيا تدفع الثمن لأردوغان من خلال اتفاقات الغاز، والوساطة في صفقة الحبوب الأوكرانية، وبيع صواريخ (إس- 400).. ولكن ليس من خلال مصالحها الاستراتيجية ومصداقيتها في منطقة كالشرق الأوسط.. وليس هناك أوضاع تدفعها «لبيع» سوريا إلى أردوغان. كما أن أردوغان من البرغماتية؛ بحيث يعرف أن مصالحه مع روسيا متبادلة ولن يصل إلى حد الصدام معها حرصاً على هذه المصالح.

* كاتب مصري


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version