كتب- بنيمين زرزور:

قضية الهيمنة وقيادة العالم هي القضية الرئيسية التي تحدد الخطوط العريضة للسياسة الدولية، وتتجلى تفريعاتها في نزاعات تنفجر في غير مكان، ربما تكون الحرب في أوكرانيا من أبرزها، نظراً لتأثيرها المباشر في التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية المهددة بفقدان هيمنتها على عالم القطب الواحد الذي لا تزال واشنطن تحاول بث الروح فيه على الرغم من احتضاره.

صحيح أن الدور الصيني المتصاعد والتهديد الروسي المباشر، منح التحالف الغربي وقتاً مستقطعاً، إلا أن نار التناقضات الاستراتيجية بين ضفتي الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تخبُ سواء كان باعثها ثقافياً أو صناعياً أو عسكرياً.

وقد كشفت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى واشنطن عن عمق الهوة التي تفصل بين الجانبين عندما يتعلق الأمر بمصالح الشركات العملاقة التي تعد القوة المحركة لاستراتيجيات السياسة العامة سواء في واشنطن أو عواصم القوة الأوروبية وفي مقدمتها باريس.

وقد سعى كل من الرئيس بايدن والرئيس ماكرون إلى تخفيف التوترات عبر المحيط الأطلسي بشأن أجندة التصنيع الأمريكية، وهي أحدث القضايا موضوع الخلاف؛ حيث قطع الزعيمان وعوداً بالعمل معاً بشأن السياسات الاقتصادية التي أزعجت المسؤولين الأوروبيين.

فقد وعد بايدن بإجراء «تعديلات» على قانون الطاقة النظيفة الشامل الذي تم تمريره في وقت سابق من هذا الصيف، والذي قال ماكرون: إنه يهدد بتفكيك التحالف الاقتصادي بين أمريكا وأوروبا.

وينظر مسؤولون في فرنسا وأجزاء أخرى من أوروبا إلى القانون، المعروف باسم قانون خفض التضخم، على أنه يمنح مزايا تفضيلية غير عادلة للشركات الأمريكية من خلال تقديم حوافز ضريبية سخية تشجع التصنيع في أمريكا الشمالية.

وقد بدا الاستياء على ماكرون من سياسات مضيفه، بما في ذلك مشروع قانون منفصل، لتعزيز تصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة يُعرف باسم قانون «تشيبس»، وحذر الرئيس الفرنسي في كلمة ألقاها بالسفارة الفرنسية وخلال مقابلة على قناة «إيه بي سي»، من أن القوانين يمكن أن تعرقل العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وتجمد الاستثمار متعدد الجنسيات في القارتين.

غضب أوروبي

ومع ذلك، من غير الواضح كيف يمكن للرئيس بايدن أن يهدئ من مخاوف ضيفه؛ حيث تتطلب أي تغييرات على القانون، الذي تم تمريره بدعم ديمقراطي فقط، إجراءً من الكونغرس. وتحقيق مثل هذا الإجراء قريباً لن يكون سهلاً بعد أن يتولى الجمهوريون السيطرة على مجلس النواب العام المقبل.

تعد خطط بايدن لتعزيز التصنيع الأمريكي جزءاً من جهود إدارته لوضع الولايات المتحدة في موقع ريادي على صعيد تغير المناخ ولتصبح أقل اعتماداً في توفير المواد الحيوية مثل أشباه الموصلات، على الدول الأجنبية.

لكن خطة بايدن أثارت الغضب في جميع أنحاء أوروبا في لحظة حرجة؛ حيث تحاول الولايات المتحدة إبقاء حلفائها الغربيين متماسكين لمواجهة حرب روسيا في أوكرانيا. ويتهم الحلفاء الأساسيون الولايات المتحدة بتقويض التحالف من أجل مصالحها وأولوياتها.

وقد خيّمت هذه الإحباطات على ما كان يمثل محاولة عبر المحيط الأطلسي لحرمان الرئيس فلاديمير بوتين من عائدات النفط اللازمة لتمويل الحرب في أوكرانيا. ودفع الحظر الأوروبي على النفط الروسي، إدارة بايدن إلى الضغط من أجل حل بديل يسمح باستمرار تدفق الإمدادات المهمة منه، منعاً لارتفاع أسعار النفط العالمية. وقد وافق المسؤولون الأوروبيون على مضض في وقت سابق من هذا العام على تبني خطة أمريكية تفرض سقفاً على سعر برميل النفط الروسي.

وتصاعد شعور حلفاء واشنطن بالإحباط منذ الصيف، عندما وقع بايدن مشروعي قانون يهدفان إلى إعطاء قطاع الصناعة الأمريكي زخماً جديداً؛ حيث يقدم قانون الحد من التضخم حوافز لدعم صناعة السيارات الكهربائية الأمريكية، ويوفر قانون «تشيبس» 52 مليار دولار على شكل إعانات وإعفاءات ضريبية لأي شركة تصنيع رقائق عالمية تختار الأرض الأمريكية لإنشاء مصانع جديدة أو توسيع العمليات الحالية. وعلى وجه الخصوص، يرى المسؤولون الأوروبيون أن قانون خفض التضخم يضع شركاتهم في وضع تنافسي صعب.

بالمقابل يتحدث المسؤولون وقادة الأعمال الأمريكيون عن المواقف الأخيرة التي اتخذ فيها الأوروبيون مواقف تجارية حمائية أثارت قلق الحكومات الأخرى – مثل آلية تعديل حدود الكربون في الاتحاد الأوروبي والضريبة الرقمية المقترحة.

وقال جيك كولفين، رئيس المجلس الوطني الأمريكي للتجارة الخارجية: «من الغريب أن ينتقد الرئيس ماكرون الولايات المتحدة لعدم التنسيق مع أوروبا بينما رفضت بروكسل بحزم مناقشة قائمة طويلة من اللوائح التي تهدد بالتمييز ضد الشركات الأمريكية».

نهاية الهيمنة الغربية

وفي الوقت الذي يحمل ماكرون لواء أوروبا القوية ببصمة فرنسية، يعتقد الرئيس الفرنسي أن مشاكل القارة لا تنفصل عن رسم حدود الهيمنة الأمريكية. فقد قال في اجتماع مغلق أخيراً مع كبار دبلوماسييه أن «النظام الدولي يعاد تشكيله بطريقة جديدة كلياً، ويجب أن أعترف أن الهيمنة الغربية قد تقترب من نهايتها».

وقد ظهرت فكرة تراجع الهيمنة الغربية لدى ماكرون في نهاية قمة مجموعة السبع في عام 2019، عندما كان شاغله الأهم قضية تمويل اقتصاد السوق العالمي وهي قضية لا تتاح من دون التعددية القطبية. ثم وجه أصابع الاتهام بحدة إلى أكبر الجناة ومن يقوض تحالف الغرب؛ حيث قال: «إن العديد من الخيارات الخطأ التي اتخذتها الولايات المتحدة في مواجهة الأزمات قد هزت هيمنتنا بشدة».

ويعتقد الأوروبيون أن الشرخ لم يكن من صنع الرئيس دونالد ترامب؛ بل إن رؤساء الولايات المتحدة السابقين اتخذوا خيارات خطأ أخرى قبل فترة طويلة خاصة سياسة كلينتون تجاه الصين، وسياسة بوش الحربية، وأزمة أوباما المالية العالمية، وسياسة التيسير الكمي.

واليوم تتلقى أوروبا إضافة إلى هذه الضربة القاضية من واشنطن، ضربات القوى الناشئة، التي قلل الغرب من شأنها ليس فقط قبل عامين، ولكن منذ نحو عشرين عاماً. و قد اعترف ماكرون بأن «الصين وروسيا حققتا نجاحاً كبيراً على مر السنين في ظل أساليب قيادة مختلفة».


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version