د. أحمد قنديل *
في حدث نادر وصفته بكين بأنه «أكبر نشاط دبلوماسي واسع مع العالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية» في عام 1949، استضافت السعودية، يومي 7 و8 ديسمبر الجاري، ثلاث قمم عربية صينية شعارها «التعاون والتنمية»، ومغزاها الندية وضرورة الاحترام المتبادل لتحقيق المنفعة المتبادلة، خلال أول زيارة دولة يقوم بها الرئيس الصيني شي جين بينغ، عقب فوزه «التاريخي» بولاية رئاسية ثالثة في أكتوبر 2022.

القمم الثلاث (سعودية – صينية، وخليجية – صينية، وعربية – صينية) عدها مراقبون «علامة فارقة» في مسار التعاون التاريخي بين العرب والصينيين، كونها تعكس عزم الجانبين على تطوير علاقاتهما الممتدة منذ قرون، فضلاً عن تمتين الشراكة الاستراتيجية والوصول بها إلى نقلة نوعية تؤسس لمرحلة متطورة من التعاون والتكامل الاقتصادي والتنسيق الدبلوماسي في عالم ما بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وما أفرزته من اصطفافات سياسية ودبلوماسية وحضارية بين دول وقوى العالم المختلفة. القمم الثلاث جاءت أيضاً في ظل مسيرة الصين نحو تأكيد مكانتها العالمية، في عالم يتجه منذ سنوات بخطى حثيثة نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، ويسعى فيه العرب إلى لعب دور فاعل في معادلة التوازنات الدولية، بعيداً من الاستقطاب.

نقلة نوعية كبيرة

القمم الثلاث تبرز أيضاً دخول العلاقات بين العالم العربي و«العملاق الصيني» «منعطف تاريخي»، من النواحي السياسية والاقتصادية وحتى الحضارية، على حد وصف الرئيس الصيني، الذي نشر مقالة في «جريدة الرياض» السعودية بعنوان «توارث الصداقة الممتدة لآلاف السنين والعمل سوياً على خلق مستقبل جميل». وأشار شي في هذه المقالة إلى أن زيارته إلى المنطقة العربية «ستفتح عصراً جديداً للعلاقات بين الصين والعالم العربي»، موضحاً أن بلاده «أقامت مع الدول العربية مجموعة من علاقات الشراكة الاستراتيجية المرتكزة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة مع 12 دولة عربية، ووقعت على وثائق التعاون في شأن بناء «الحزام والطريق» مع 20 دولة عربية، وأعربت 17 دولة عن دعمها لمبادرة التنمية العالمية، وانضمت 15 دولة إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وشاركت 14 دولة في مبادرة التعاون بين الصين وجامعة الدول العربية في مجال أمن البيانات».

بالنسبة للصين، تمثل الدول العربية، خاصة الدول الخليجية، مصدراً آمناً ومستقراً لإمدادات الطاقة التي تضخ الدماء في شرايين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فضلاً عما تمثله ممراتها البحرية، وموقع هذه الدول الاستراتيجي من مزايا جيوسياسية تضعها في قلب مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، لا سيما طريق الحرير البحري الذي يمر بمنطقة الخليج العربي والبحر الأحمر، وصولاً إلى قناة السويس المصرية، وهو ما يجعله درباً متفرداً لتحقيق الترابط بين شرق وغرب العالم. وفي هذا السياق، يشار إلى أنه في عام 2021، استوردت بكين 265 مليون طن من النفط الخام من الدول العربية، وهو ما يمثل 51.6 في المئة من إجمالي واردات الصين النفطية من الخارج. وفي شهر نوفمبر الماضي، وقعت شركة قطر للطاقة اتفاقية مدتها 27 عاماً لتزويد شركة سينوبك الصينية بالغاز الطبيعي المسال في أطول اتفاقية للغاز الطبيعي المسال عرفها العالم حتى الآن. وتعد الصين أكبر شريك تجاري لمعظم الدول العربية. في عام 2021، بلغ حجم التجارة بين الصين والدول العربية ما يقرب من 330 مليار دولار، بزيادة سنوية قدرها 37 في المئة مقارنة بالعام السابق.

تزايد الدور الصيني

من المتوقع أن تساعد القمم الثلاث المذكورة على تشكيل اتجاه العلاقات العربية الصينية خلال الخمس إلى العشر سنوات القادمة على الأقل، خاصة أن معظم العرب يعتقدون بأن مبادرات الصين العالمية للتنمية والأمن تمثل مساهمات إيجابية في استقرار وتحسين النظام العالمي. كما يرون أيضاً أن مبادرة الصين المكونة من خمس نقاط لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، والتي أثيرت في مارس/آذار 2021، مثال جيد على جهود الصين للمساهمة في الأمن الإقليمي.

وقد ألمح إليه الرئيس الصيني خلال القمم الثلاث، عندما كشف عن عزم بلاده لعب دور في قضايا الأمن الإقليمي، خاصة تلك التي ترتبط بإيران وفلسطين واليمن وليبيا. وفي هذا السياق، كشف البيان المشترك الصادر عن القمة السعودية الصينية، عن اتفاق الجانبين على الحاجة إلى تعزيز التعاون المشترك لضمان الطبيعة السلمية لبرنامج إيران النووي، داعين إيران إلى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والحفاظ على نظام منع الانتشار والتأكيد على احترام مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

ومن ناحية أخرى، من المرجح أن تسفر القمم الثلاث المذكورة عن تسريع مساعي عدد من الدول العربية في الانضمام إلى بعض التجمعات الاقتصادية والأمنية، التي تقودها بكين، مثل مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها. ويشار في هذا الصدد إلى أن مصر والسعودية وقطر أصبحت حالياً «شركاء حوار» في منظمة شنغهاي للتعاون، ومن المقرر أن تصبح البحرين والإمارات والكويت شركاء حوار أيضاً للمنظمة.

وفي المجال الدفاعي والأمني، من المرجح زيادة التعاون العربي الصيني من خلال تعزيز ورفع مستوى تبادل المعلومات والخبرات في مجال مكافحة الجرائم المنظمة بما فيها جرائم الإرهاب وتبادل الخبرات في مجالات الإنذار الاستخباراتي المبكر وتقييم المخاطر الأمنية، ومكافحة الجرائم المعلوماتية، بما يخدم ويحقق المصالح المشتركة للبلدين.

على أية حال، يمكن القول إن «دبلوماسية القمة» التي جمعت قادة العرب والصين في الرياض نجم عنها انسجاماً واضحاً بين هؤلاء القادة وسيل من البيانات والاتفاقيات بشأن الاستثمار والتجارة، وحددت التوجهات العامة لتطوير العلاقات بين العرب والصين في العقد القادم. ومع ذلك، يكمن المقياس الحقيقي لنجاح هذه الدبلوماسية في التفاصيل التي لم يعلن عنها، وما تم التوصل إليه من توافقات في الاجتماعات المغلقة بين القادة، وتنفيذ هذه التوافقات على الأرض.

* خبير الشؤون الآسيوية- مركز الأهرام

للدراسات السياسية والاستراتيجية


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version