د.محمد عز العرب *

أسفرت الانتخابات البرلمانية التي شهدتها تونس في السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، عن جملة من الرسائل الصريحة والضمنية التي كشفتها نتائجها الأولية، أبرزها ضعف نسبة المشاركة التصويتية بحيث بلغت 11.2 في المئة، وحسم عدد محدود من الناخبين فوزهم في الجولة الأولى، ومحدودية المعرفة السياسية والمجتمعية بالمرشحين و«البرلمانيين الجدد».

* أولاً، ضعف نسبة المشاركة: بلغت نسبة المشاركة النهائية في الانتخابات البرلمانية التونسية 11.22%، من إجمالي عدد الناخبين البالغ عددهم نحو 9 ملايين و200 ألف ناخب، وهي نسبة متدنية للغاية مقارنة بنسبة المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها البلاد خلال الفترة الأخيرة، فهي أقل من نسبة المشاركة في الاستفتاء الشعبي على الدستور في 25 يوليو/ تموز الماضي، والتي بلغت نحو 30%، وأيضاً أقل من نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية السابقة التي أجريت في عام 2019 وبلغت نحو 41%، بسبب غياب مشاركة الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، ولاسيما حركة النهضة والتيارات الليبرالية وأحزاب اليسار والنقابات.

* ثانياً، حسم عدد محدود من الناخبين فوزهم في الجولة الأولى، والذي بلغ 21 مرشحاً فقط، ما يعني أن الجولة الثانية من هذه الانتخابات ستحسم مصير باقي المرشحين الذين لم يتمكنوا من حسم نتائجهم في الجولة الأولى، حيث ستتم جولة الإعادة في 133 دائرة من أصل 161 دائرة، على أن يتم إجراء جولة الإعادة في 20 يناير/ كانون الثاني 2023، وقد يرجع السبب وراء ذلك إلى القانون الانتخابي الجديد الذي تم اعتماده في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، كقاعدة أساسية لإجراء الانتخابات وفقاً لها، والذي يشترط حصول المرشح على 50%+1 من أصوات الناخبين في دائرته الانتخابية.

نخب جديدة

* ثالثاً، تعكس النتائج الأولية لهذه الانتخابات، إشكالية عدم معرفة، سواء النخب السياسية أو الرأي العام (الناخبىن)، بالمرشحين، خاصة أن معظم المرشحين من المستقلين غير المعروفين بنشاط سياسي سابق يساعدهم في جذب الناخبين لهم، كما أن منهم مرشحين عن بعض الأحزاب السياسية المؤيدة للبرنامج الإصلاحي، سياسياً ودستورياً، منذ فرض الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو 2021.

شرعية منقوصة

* رابعاً، إن إحدى الدلالات الرئيسية التي كشفت عنها نتائج الانتخابات، أن البرلمان الجديد لم يتم انتخابه من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام التونسي، وإنما تم اختيار عناصره من قبل أقلية. كما أنه لا يعقل أن يخلو البرلمان من أي شخصيات معارضة، ما يتعارض مع حال «الديمقراطية الناشئة». ولعل ذلك ما دفع ببعض القوى المعارضة إلى اعتبار النتائج الأولية بمثابة سحب الثقة من الرئيس سعيّد، ومطالبته بالاستقالة، والدعوة لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. فضلاً عن مطالبة الحكومة الحالية برئاسة «نجلاء بودن»، بتقديم استقالتها والاكتفاء بحكومة تصريف أعمال لحين إجراء انتخابات حرة تفرز «حكومة شرعية»، وإلغاء المرسوم عدد 55 المؤرخ في 15 سبتمبر/ أيلول 2022، المتعلق بالانتخابات والدعوة لانتخابات تشريعية مطابقة للمعايير الدولية.

انقسام متزايد

* خامساً، لم تسهم الانتخابات في الحد من الأزمة السياسية القائمة، بل زادت من وتيرتها، نظراً لحجم الفجوة بين الجبهة المعارضة للرئيس سعيّد التي تزداد اتساعاً فترة بعد أخرى، والكتلة المؤيدة له التي تتراجع أجنحتها. وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات تعد المرحلة الأخيرة في سلسلة الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس سعيّد منذ عام ونصف العام لتدشين ركائز «الجمهورية الجديدة» لتجاوز المتاهة التي سارت بعدها البلاد في مرحلة ما بعد إسقاط نظام حكم بن علي وتفكيك سيطرة حركة النهضة وحلفائها على مقاليد السلطة، إلا أن المرحلة المقبلة قد تشهد لجوء قوى المعارضة، ممثلة في حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني وربما اتحاد الشغل، إلى سياسات الشارع لتصعيد منسوب الاحتجاجات في مواجهة الرئيس.

في مقابل ذلك، ظهرت قوى أخرى، منها «حركة شباب تونس الوطني» المعروف باسم «حراك 25 يوليو» التي أصدرت بياناً اتهمت فيه الأحزاب المعارضة بالتأثير السلبي في توجهات الناخبين عبر شنّ حملات ممنهجة كانت تهدف إلى تحريض الناخبين على عدم المشاركة في التصويت من جهة، والمشاركة بمرشحين غير معروفين من جهة أخرى، من أحزاب معارضة، مثل الحزب الدستوري الحر والنهضة وحزب الدستوري الحر والتيار الديمقراطي، ما ترتب عليه انخفاض نسبة المشاركة، بصفة عامة.

ضغط أمريكي

* سادساً، إمكانية ممارسة ضغوط خارجية على الرئيس، وهو ما ظهر في البيان الصادر عن الخارجية الأمريكية الذي أشارت فيه إلى أن إجراء هذه الانتخابات يُعد خطوة أولى في طريق استعادة المسار الديمقراطي في تونس، ورغم ذلك، فإن العملية السياسية في تونس تحتاج إلى توسيع نطاق المشاركة السياسية بشكل أكبر في ظل تدني نسبة المشاركة في هذه الانتخابات، وارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت على هذا النحو. فقد تؤدي النسبة المتضائلة للمشاركة التصويتية واتساع الجبهة المناوئة للرئيس سعيّد وازدياد حدة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتعليق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي إلى يناير/ كانون الثاني 2023، إلى تراكم الضغوط التي تُمارس على الرئيس، واحترام إرادة الناخبين، والاعتراف بفشل منظومته السياسية وعجزها عن الاستجابة لتطلعات الشعب التونسي وحل مشكلاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تأزمت خلال العام الأخير.

وفي هذا السياق، قال الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل في تصريحات على موقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 3 ديسمبر/ كانون الأول الجاري «إن بلاده تعيش وضعاً خانقاً»، وتشهد ما اعتبره تدهوراً على جميع الصعد. وحذر من أن تونس «مقسمة ومشتتة وفاقدة للطريق»، و«تنذر كل المؤشرات بخطر داهم».

خلاصة القول، هذه رسائل ست، بعضها مباشر وبعضها الآخر غير مباشر، تشير في مجملها إلى أن تونس قد تواجه أوضاعاً غير مستقرة، لاسيما في ظل العودة لما قبل قرارات 25 يوليو/ تموز 2021، وفي الوقت نفسه صعوبة القبول بمخرجات انتخابات تونس 2022، التي أقصت معظم القوى والأحزاب السياسية، ما يرجح التأزم متعدد الأبعاد، خلال المرحلة المقبلة، فضلاً عن تحديات أخرى تتعلق بمكافحة الفساد وغسل الأموال والقضاء على الإرهاب، خاصة من المناطق الطرفية، وبقاء إشكالية التنمية غير المتوازنة.

* رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version