يبدو أن الصعود الصيني والحرب الروسية الأوكرانية يفرضان واقعاً جديداً في دوائر القرار الغربية والأمريكية تحديداً، لكن يحاول هذا الكتاب تناول الأمر من زاوية أخرى أنفع للجميع؛ إذ يستكشف بصيغة مقارنة التفاهمات الغربية والصينية للعدالة، وكيفية استخدامها المحتمل لإعادة تأطير العلاقات الصينية الأمريكية، وصياغة حوكمة دولية تضمن علاقات روسية أفضل مع العالم الغربي.

لا شك أن مفهوم العدالة يعد محورياً في السياسة، لما لها من دور تنظيمي في المجتمعات؛ لذلك يقارن المؤلفان في هذا الكتاب بين المفاهيم الغربية والصينية للعدالة، ويجدان أن العدالة يمكن اختزالها بشكل شبه دائم في مبادئ معينة وواضحة، على الرغم من تطويرها والتعبير عنها بشكل مختلف في الثقافتين. يُظهر ليبو وتشانغ أنه كان هناك تحول ملحوظ في الثقافتين بشأن تفضيل المساواة على العدالة في العصر الحديث. ويحللان الصراع المتنامي بين الصين والغرب في ضوء مفاهيم العدالة هذه، كما يوضحان كيف يمكن نشرها، لتحسين العلاقات. يقدم المؤلفان أيضاً نقداً لما يختبره النظام العالمي، ويستكشفان الطرق التي يوفر بها العدل والمساواة دروباً لبناء عالم أفضل.

يعدّ هذا الكتاب، الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد في بريطانيا في 2022 باللغة الإنجليزية ضمن 324 صفحة، استكمالاً لعمل سابق بعنوان «ترويض المنافسة الأمريكية الصينية»، الذي نشرته أيضاً مطبعة جامعة أكسفورد في عام 2020. تناول الكتاب العلاقات بين هاتين الدولتين العملاقتين بناء على إيمان من الكاتبين بأنه لا يوجد تضارب مصالح غير قابل للحل بين الصين والولايات المتحدة، وأن هناك العديد من المصالح المشتركة التي يمكن تحقيقها على أفضل وجه من خلال تسوية مثمرة. يقول المؤلفان: «نرفض بشكل قاطع الفكرة الحتمية القائلة إن الحرب بينهما هي نتاج (طبيعي) و(محتمل) لنمو الصين الأخير الهائل في القوة».

يستكشف هذا الكتاب بعض الأسباب الأساسية الكامنة وراء المصالح المشتركة: القيم المشتركة وفهم العدالة. يأتي هذا الكتاب بأفكار تبدو على تناقض حاد مع ما طرحه صموئيل هنتنغتون وآخرون ممن يصفون الصراع الصيني الأمريكي بأنه صدام الحضارات؛ إذ يظهر المؤلفان مدى القواسم المشتركة بين الثقافتين في فهمهما للعدالة. يجدان أن العدل والمساواة أمران أساسيان لكلا البلدين، وأصبحت المساواة أكثر أهمية في العصر الحديث، لكن يتم جمع مفاهيم العدالة هذه بشكل مختلف في البلدين، وفي الثقافات الغربية والشرقية بشكل عام، لكن هذا لا ينبغي أن يطمس أوجه التشابه الأساسية بينهما. يشير المؤلفان بالقول: «نعتقد أن الالتزامات المشتركة بالعدالة يمكن أن توفر أساساً ثابتاً لتفاهمات أفضل، ليس فقط بين الصين والولايات المتحدة، ولكن بين دول أخرى أيضاً».

في هذا الصدد، يصف الكاتبان التناقضات الحادة القائمة في الوقت الراهن بين مبادئ العدل والمساواة وهيكل وممارسة العلاقات الدولية، ويقترحان أنه إذا تم جعل كليهما أكثر انسجاماً مع هذه المبادئ، فلا شك أن الجميع سيستفيد. وسيشمل ذلك تسويات مهمة بين العدل والمساواة، وهي مسائل خلافية في المجتمع المحلي وكذلك الدولي. والأهم من ذلك، أنه يتطلب الاعتراف بأن وجود مجتمع دولي بدرجة معينة من التضامن والشرعية ليس فقط هدفاً مهماً، ولكنه ضروري للمصالح طويلة الأجل للصين والولايات المتحدة. يعلق المؤلفان على ذلك بالقول: «اعتنق الأمريكيون هذه الحقيقة في أوائل حقبة ما بعد الحرب، ولكن يبدو أنهم فقدوها في العقود الأخيرة؛ حيث قام العديد من المواطنين والقادة على حد سواء بتضييق فهمهم للمصالح. يمكن القول إن هناك تطوراً موازياً حدث في الصين. يجب أن يكون هدفنا المتمثل في تضييق التناقضات بين القيم والممارسة هدفاً طويل المدى، لكنه ليس هدفاً مستحيلاً أو غير واقعي». كما يصف المؤلفان بعض المسارات التي يمكن أن تحدث التغييرات من خلالها لتحفيز التفكير والالتزام نحو نظام دولي أكثر انسجاماً ونجاحاً.

الهجوم الروسي على أوكرانيا

عند قراءة أخيرة للمؤلفين في محتوى هذا العمل، هاجمت روسيا أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، شكل الأمر صدمة لهما، كما حدث مع الكثيرين. يعبر المؤلفان عن هذا السياق بالقول: «لم نتفاجأ من أن وسائل الإعلام امتلأت بتأكيدات مثل «قلنا لكم ذلك» من قبل الواقعيين والسياسيين الواقعيين. لا يعني ذلك أنهم توقعوا الهجوم؛ بل كانت لديهم نظرة متحيّزة للعلاقات الدولية، التي يعدونها غير متغيرة في انعدام الأمن، والاعتماد على القوة العسكرية، والأعمال العدوانية الدورية من جانب القادة والشعوب غير الراضين أو الطموحين. يؤكد المعلقون أن الأوروبيين على وجه الخصوص كانوا سذّجاً بالتفكير في أن الحرب في قارتهم لم تعد محتملة؛ بل لا يمكن تصورها. من وجهة نظرهم، كشفت العلاقات الدولية مرة أخرى عن وجهها الحقيقي؛ حيث انتزعت البساط من تحت أقدام الليبراليين الذين وضعوا ثقتهم في المؤسسات والبناءين الذين يثقون في الهويات المشتركة».

يضيفان بالقول: «نحن نرفض هذه الانتقادات. يشير الهجوم الروسي بالفعل إلى أن هناك قادة على استعداد لاستخدام القوة لتحقيق غاياتهم، ولقتل العديد من المدنيين الأبرياء من دون قلق في هذه العملية. كان مثل هذا السلوك روتينياً ومقبولاً بشكل اعتيادي فيما مضى. لم يستغرق الأمر فترة طويلة، حتى لقي الهجوم الروسي إدانة على المستوى العالمي تقريباً، وحظيت أوكرانيا على دعم واسع النطاق، وتم عزل روسيا وزعيمها. لم يرد الناتو عسكرياً بشكل مباشر وإنما رد اقتصادياً ودبلوماسياً. يرى البعض أن هذا علامة على الضعف ولكن يمكن أيضاً تفسيره على أنه قوة. الحرب غير مقبولة للجماهير والحكومات الأوروبية باستثناء الدفاع عن دولة عضوة في الناتو تتعرض للهجوم من الخارج. ومع ذلك، هناك دعم شبه عالمي لأوكرانيا وإدانة لروسيا. المنشقون الوحيدون هم أصوات منعزلة نسبياً في أقصى اليمين واليسار. لقد توحدت أوروبا – الغرب ككل – بطريقة لم يتوقعها محللو السياسة الخارجية، أو يفترض فلاديمير بوتين. تم إرسال المساعدات العسكرية بسرعة إلى أوكرانيا وفرضت عقوبات اقتصادية ساحقة على روسيا».

ويرى المؤلفان أنه من السابق لأوانه التنبؤ بما سيحدث؛ الروايات التي تؤدي إلى نتائج مختلفة تماماً معقولة بشكل بارز. السيناريو الأسوأ يشمل الاحتلال الروسي لأوكرانيا، واستمرار معارضة الأوكرانيين على شكل حرب العصابات، وتصعيد الأعمال الانتقامية الروسية، ما يجعل البلاد تشبه الوضع في سوريا. مثل هذا الوضع الكئيب سيؤدي إلى معاناة عصية على الوصف. إذا فرضت العقوبات الاقتصادية، والمقاومة المحلية، والعزلة السياسية، والمعارضة الداخلية المتزايدة للحرب وبوتين في روسيا، انسحاباً عسكرياً روسياً في نهاية المطاف، فستكون هذه إشارة لجميع القوى التي يرفض الواقعيون وصفها بأنها غير محددة في العلاقات الدولية. وهذا بدوره سيرسل إشارات قوية إلى القادة الآخرين الذين يفكرون في هجمات مقبلة. وبغض النظر عن النتيجة، فقد خسرت روسيا مكانتها، كما حدث مع الولايات المتحدة في أعقاب غزوها لأفغانستان والعراق. وإلى الحد الذي يعد فيه الوضع والنفوذ من الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية، سيوضّح الهجوم الروسي لأوكرانيا مرة أخرى أن استعراض القوة العسكرية في غياب التفويض الدولي، يؤدي إلى نتائج عكسية. اليوم، تكتسب الدول مكانة من خلال ثرواتها ورفاهية مواطنيها، وبرامج المساعدات الخارجية، والإنجازات الثقافية والعلمية، والخدمات بمختلف أنواعها للمجتمع الدولي. هذه المكانة تزيد من نفوذ الدولة ويؤدي فقدانها إلى تقليصها.

تشير هذه الحقيقة السياسية إلى خلل أعمق في التفكير الواقعي كما يراها المؤلفان. ويقولان: يفترض الواقعيون أن القدرة المادية هي أساس القوة في التأثير. هذه العلاقات ليست مباشرة. يمكن أن تتخذ القدرة المادية أشكالاً عديدة وهي مصدر واحد فقط من مصادر القوة. والأهم من ذلك أنها لا تترجم مباشرة إلى نفوذ. التأثير هو القدرة على إقناع الآخرين بفعل ما يحلو لك. أحياناً تكون التهديدات القائمة على القوة العسكرية والرشى القائمة على القوة الاقتصادية ناجحة في بعض الأحيان، لكنها في الأغلب لا تكون كذلك. كما يمكن أن تكون مكلفة. يعتمد الإقناع الأكثر نجاحاً على إقناع الناس بأن ما تريد أن يفعلوه هو في مصلحتهم. يعتمد النجاح هنا على المصالح المشتركة والفوائد من الهويات المشتركة والمهارات الخطابية وتاريخ التعاون السابق. الإقناع من هذا النوع تقوضه التهديدات والرشى، بما يمكن اعتباره استخدام القوة الغاشمة. من المرجح أن يؤدي التعاون الدولي في معارضة روسيا وبيلاروسيا في أوكرانيا إلى تعزيز الهوية المشتركة لتلك الدول والشعوب المشاركة وزيادة الوعي بمصالحهم المشتركة. اعتماداً على النتيجة، لديها القدرة على تعزيز المحرمات ضد غزو الأراضي والاستخدام الأحادي للقوة، وتقوية المؤسسات المتعددة الأطراف، وتعزيز الديمقراطية. لا يمكن إصدار حكم في هذا الوقت، ونحن بحاجة إلى أن نتحلى بعقل متفتح وتجنب استخلاص النتائج التي تدعم الواقعية أو أي نموذج آخر للعلاقات الدولية.

بناء نظام دولي سلمي

يتطرق المؤلفان في الفصول الثلاثة الأولى إلى المفاهيم الصينية للعدالة. فالفهم الصيني يبدو أقرب شبهاً مع العدالة في تاريخ الفكر الغربي. وفقاً لذلك، يبدأ المؤلفان باستكشاف الفكر الكونفوشيوسي في العدالة، يقولان: يفهم الكونفوشيوسيون العدالة إما أنها فضيلة شخصية، وفي هذه الحالة يمكن ترجمتها على أنها صلاح، وإما كمعايير اجتماعية يتم من خلالها تقييم السلوك الشخصي، وفي هذه الحالة يكون من الأفضل تقديمه على أنه ملائم. تستند العدالة الكونفوشيوسية على أخلاقيات مرنة للرعاية الشاملة ولكن التفاضلية؛ لذلك ليس لها أي دلالة على وجود معيار أخلاقي مطلق موجود في بعض المفاهيم الغربية للعدالة. ولأن الكونفوشيوسية تأخذ الانسجام ليكون الهدف النهائي للنظام الاجتماعي والسياسي، يمكن اعتبار الانسجام هدفاً للعدالة الكونفوشيوسية. تتبنى العدالة الكونفوشيوسية مبدأ قوياً للعدالة ومبدأً ضعيفاً للمساواة. إنها تتصور العدالة بطريقتين الأولى على أساس الجدارة أو الفضيلة أو الوضع، والثانية على أساس المعاملة بالمثل للالتزامات. كما تقترح أربعة معانٍ للمساواة تتجلى في الكرامة الإنسانية، والقيم الأخلاقية، والسياسة، والمساواة في الصداقات. المساواة السياسية والمساواة في القيم الأخلاقية هي إلى حد كبير من المثل العليا. وهناك توتر بين العدالة والمساواة في الفكر الكونفوشيوسي؛ حيث تتفوق العدالة دائماً على المساواة.

المفاهيم الغربية والشرقية

يتطرق المؤلفان في الفصل الرابع إلى مفاهيم صينية أخرى للعدالة والمساواة، ويقارنان في الفصل الخامس بين المفاهيم الغربية والشرقية للعدالة. ويقولان: هناك العديد من الطرق التي يمكننا من خلالها هيكلة هذه المقارنة. نظراً لأن مصلحتنا النهائية هي بناء نظام دولي سلمي وتعاوني، فإننا نختار الفئات التي تبدو أكثر صلة بهذا الهدف. المفتاح هنا هو الاعتقاد المشترك بين الفلاسفة الصينيين والغربيين بأن الناس في كل مكان لديهم نفس الاحتياجات والمشاعر ويريدون العيش في مجتمعات عادلة ومنظمة. الصين والغرب كلاهما يضع نظرية المساواة والعدالة كمبادئ مركزية للنظام، وإن كان ذلك في مختلف التعبيرات والأشكال.

تعترف الخطابات الصينية والغربية أيضاً بالفجوة الموجودة بين مبادئ العدالة وكيفية عمل الأنظمة السياسية والاجتماعية في الواقع. لكن عموماً تعلم الصينيون والغربيون إلى حد ما كيفية التعايش مع فلسفات وأنظمة قيم متعددة، بحسب المؤلفين.

يقدم المؤلفان في الفصلين السابع والثامن أفكاراً حول كيفية عمل أنظمة أكثر وأفضل في العلاقات الدولية، ويستكشفان العديد من المسارات المختلفة بغية تقليل احتمالية نشوب حرب بين الدول. يقولان عن ذلك: هدفنا هو إنشاء المزيد من المطالب الجوهرية التي تتضمن مكونات من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل وتلبية الاحتياجات ليس فقط لأجل الحصول على الأمان المادي والرفاهية المادية ولكن أيضاً بهدف نيل المكانة واحترام الذات.

يستعرض الفصل التاسع خلاصات المؤلفين في استكشاف مبادئ العدالة في الغرب والصين وإيجاد أرضية مشتركة لعلاقة أكثر إنتاجية وسلمية. يقولان: إن الحاجز الرئيسي في طريق مثل هذا التحوّل هو الالتزام العاطفي العميق الجذور بالتفوق الثقافي الذي يميز الثقافة الأمريكية والصينية. إنه يدفع القادة والمواطنين في كلا البلدين إلى النظر إلى الآخر على أنه منافس وعلاقتهم على أنها شيء قريب من لعبة محصلتها صفر. العائق الثانوي هو أنظمتهما السياسية شديدة الاختلاف. تواجه الليبرالية السياسية والاقتصادية في أمريكا استبداد الصين وتحث القادة وقادة الرأي في كلا البلدين على اعتبار الآخر تهديداً. علاوة على ذلك، تتصرف كل قوة عظمى بطرق يبدو أنها تتحدى القيم الأساسية للآخر. ونعتقد أن بعض هذه الاختلافات يمكن تصميمها وإبرازها. وهذا يتطلب ضبط النفس في السياسة والخطاب. ويضيفان: العدالة مصدر قلق إنساني أساسي لكنها ليست الشاغل الوحيد. يتوق الناس إلى الأمن والحميمية والرفاهية المادية. إذا كانت العدالة هي أساس النظام، فهي بشكل عام شرط أساسي لهذه الأهداف الأخرى، لأنها تتطلب نظاماً اجتماعياً وسياسياً مستقراً.


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version