كتب: بنيمين زرزور
تشهد السياسة الأمنية اليابانية ثورة حقيقية كشفت عنها وثائق استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي الصادرة مؤخراً والتي أثارت الكثير من الجدل حول طبيعة التحول السلمي الياباني، حيث اختارت طوكيو زيادة ميزانيتها الدفاعية وقدراتها بشكل كبير، ما يرتقي بقدرات قوات الدفاع الذاتي اليابانية ويعيد رسم العلاقات الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
هل تمثل وثائق الاستراتيجية الجديدة نقطة تحول في السياسات الأمنية اليابانية؟ منذ الإدارة الثانية لرئيس الوزراء آبي شينزو، جنح المعلقون للقول بأن اليابان «تستعرض عضلاتها العسكرية» و«تتخلى عن المسالمة». ومن المؤكد أن استراتيجية الأمن الجديدة تعالج العديد من الالتزامات والسياسات. وينظر إليها على أنها تتويج لنهج آخذ في الترسيخ منذ مدة، وإضفاء الطابع الرسمي على التغيير التدريجي في السياسات الأمنية.
وتتعرض طوكيو عبر المحيطين الهندي والهادئ، لمجموعة من ردود الفعل بدافع من أولويتين متعارضتين: الذاكرة التاريخية للفظائع اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، والخوف الحالي من «عدوان عسكري صيني». حتى إن جاهزية طوكيو للمخاطرة برد الفعل الإقليمي هذا، تسلط الضوء على التزامات اليابان العميقة بشأن الدفاع وتحالف الولايات المتحدة، ويعكس تفويضاً عاماً لخطة أمن قومي أقوى.
ماذا تقول الوثائق؟
تم وضع الرؤية الدفاعية الجديدة لليابان في ثلاث وثائق استراتيجية: استراتيجية الأمن القومي، واستراتيجية الدفاع الوطني (المعروفة سابقاً باسم إرشادات برنامج الدفاع الوطني)، وبرنامج بناء قوات الدفاع.
وتلزم الوثائق اليابان بزيادة إنفاقها الدفاعي تدريجياً حتى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، الرقم المتوافق مع هدف الناتو للإنفاق الدفاعي. وضمن هذه الرؤية، سيتم استثمار 7 مليارات دولار لمدة 5 سنوات في الحرب الإلكترونية، و7 مليارات دولار في الفضاء، و 6 مليارات دولار في برنامج تطوير الطائرات المقاتلة من الجيل السادس المشترك مع المملكة المتحدة وإيطاليا، المعروف باسم «تيمبيست».
لكن أهم الاستثمارات التي جاءت الوثائق على ذكرها هي تلك المتعلقة بقدرات «الضربة المضادة»، في إشارة إلى الحصول على صواريخ بعيدة المدى قادرة على إصابة السفن أو الصواريخ الأرضية على بعد 1500-3000 كيلومتر.
وتملأ الوثائق الأخيرة ثغرات الضربة المضادة من خلال شرح الأساس المنطقي والقانوني لتلك الضربات، وتوضيح الشروط التي بموجبها سيكون لليابان السلطة القانونية لاستخدام هذه القدرات، وتحديث مخزونات الصواريخ الحالية لجعل مثل هذه الضربات ممكنة.
وتتضمن التحسينات الرئيسية خططاً لإنتاج الصواريخ محلياً والتحرك الأخير للحصول على صواريخ «توماهوك» للهجوم الأرضي الأمريكية الصنع لاستخدامها على سفن قوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية. ستمنح هذه الصواريخ اليابان القدرة التقنية على ضرب أهداف عسكرية في عمق آسيا، مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الوثائق تسلط الضوء أيضاً على مصطلح جديد، وهو أهمية «القوة الوطنية الشاملة». ويعرف ريتشارد صامويلز، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، القوة الوطنية الشاملة بأنها القوة القائمة على الاستخدام المشترك للدبلوماسية والقوة العسكرية والقوة الاقتصادية والتكنولوجيا والاستخبارات.
دبلوماسياً، تصف الاستراتيجية الصين بأنها «التحدي الاستراتيجي الأكبر» الذي يواجه اليابان، ويصف كوريا الشمالية بأنها «تهديد أكثر خطورة ووشيكاً للأمن القومي الياباني»، وتكرر الوثائق موقف طوكيو القوي ضد الحرب الروسية في أوكرانيا. وبطبيعة الحال تجد اليابان نفسها في موقع نادراً ما تواجهه أي دولة أخرى في الظروف الراهنة، فهي على مقربة من الصين وكوريا الشمالية وروسيا، وتعتبرها حكومات الدول الثلاث تهديداً أو خصماً. وتعزز الوثائق الاستراتيجية الجديدة ما يعتقده خبراء الأمن اليابانيون منذ فترة طويلة.
التصورات الإقليمية
جاءت الاعتراضات الأقوى على استراتيجية الأمن اليابانية الجديدة من كوريا الشمالية والصين. وقالت وكالة الأنباء المركزية الكورية «لقد تبنت اليابان استراتيجية أمنية جديدة بهدف امتلاك القدرة على شنّ هجوم استباقي على دول أخرى، وبالتالي إثارة أزمة أمنية خطيرة في شبه الجزيرة الكورية وشرق آسيا». ووصفت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الرسمية الاستراتيجية اليابانية بالقول «لدى اليابان تاريخ من الانحراف إلى العسكرة وارتكاب العدوان والجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي تسبب في الماضي في كارثة للمنطقة والعالم».
وجاء الدعم الأكثر حماسة للاستراتيجية اليابانية من الولايات المتحدة. فقد قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان بعد صدور الوثائق: «اتخذت اليابان اليوم خطوة جريئة وتاريخية لتعزيز الدفاع عن منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة»، وأصدر وزير الخارجية أنتوني بلينكين بياناً «يرحب» بالاستراتيجية.
ثلاثة استنتاجات
واستخلص المراقبون في الولايات المتحدة ثلاثة استنتاجات من الاستراتيجية. أولها التزام اليابان بتقديم أكبر دعم لقدراتها الدفاعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهنا تحدد الوثائق الاستراتيجية الثلاث ثغرات الردع التي لطالما ابتلي بها الأمن الياباني وتحاول معالجتها. وحتى وقت قريب، أثبتت طوكيو عدم استعدادها لسد هذه الثغرات بنفسها، مفضلة الاعتماد على الولايات المتحدة كضامن لأمنها. ولأسباب مستجدة عديدة، بما في ذلك الخوف من فك الارتباط الأمريكي والبيئة الاستراتيجية المعقدة، يبدو أن عصر الاعتماد على الولايات المتحدة قد انتهى.
ثانياً، يجب على الولايات المتحدة أن تعترف بدعم اليابانيين العام لهذه الاستراتيجية باعتبارها تطوراً رئيسياً. يمكن لطوكيو اليوم أن تعتمد على أغلبية ضئيلة من الدعم الشعبي في السعي إلى دفاع أقوى، ولكنها حقيقية، وهو إجماع سياسي لم يكن من الممكن تصوره في السابق. وتظهر العديد من استطلاعات الرأي أن الجمهور على استعداد متزايد لإشراك اليابان في الدفاع عن تايوان، واعتماد أنظمة الضربات المضادة لردع الاستفزازات الصاروخية الكورية الشمالية، وزيادة القدرات الدفاعية بشكل عام.
أخيراً، لا يوجد مؤشر على ابتعاد اليابان عن النزعة السلمية أو رفض موقفها الأمني الدفاعي. بل إن هناك تأكيدات تشير إلى دوافع غير واضحة قد تعزز عن غير قصد الروايات الدعائية التي تروج لها الصين وكوريا الشمالية.