كتب – المحرر السياسي:
من الواضح أن حديث وزير خارجية الصين تشين قانغ، عن «يد خفية» تعبث بالحرب في أوكرانيا له ما يبرره. وقد صارت الأدلة على تلك اليد الخفية واضحة لعل أقواها رفض الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، ربما مكرهاً، كل مبادرات السلام التي طرحت حتى اليوم وآخرها كانت خطة السلام الصينية.
بعيداً عن مجريات المعارك على الأرض والسقوط الوشيك لباخموت في يد القوات الروسية، لم يعد رهان المراقبين على مثل هذا التطور الميداني في تحفيز الأطراف على وقف إطلاق النار وارداً، فكيف باتفاقهم على بدء مفاوضات التسوية.
ذلك لأن الغموض الذي اكتنف بدء هذه الحرب وبواعثها والجهات التي كانت تدفع باتجاه تأجيجها، انجلى قبل دخولها العام الثاني؛ حيث صارت حرباً على المكشوف تديرها الولايات المتحدة عن بعد وتحشد لها الحلفاء على أمل تحقيق الأهداف المحددة مسبقاً في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي من الناحية النظرية، وضمان استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم في تشكيلته الجديدة، من الناحية العملية.
الحرب الكبرى
وقد كشفت وثيقة الأمن القومي للولايات المتحدة لعام 2022 عن أن واشنطن تخطط لعصر جديد في النظام العالمي تحل فيها المنافسة في حرب كبرى محل الحرب ضد الإرهاب. وتلقى الفكرة القائلة إن المنافسة الاستراتيجية الحالية مع القوى العظمى الأخرى هي التحدي الرئيسي للسياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية قبولاً جيداً، على الرغم من أنها لا تحظى بإجماع دوائر صنع القرار.
وكان للتطورات العالمية الأخيرة تأثيرها في رسم استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى؛ حيث تشكل روسيا تهديداً مباشراً في أوكرانيا. ومع ذلك، يجب ألاّ تخسر موسكو الحرب ولا تكسبها. وبينما تزداد حدة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، هناك تباينات بين الجانبين حول إعادة تعريف النظام الدولي. وللمنافسة مع بكين واحتواء موسكو في حرب أوكرانيا، متطلبات عسكرية واقتصادية وجيوسياسية.
بالنسبة لواشنطن، لا يعتبر الفوز أو الخسارة في الحرب في أوكرانيا أمراً معقداً للغاية؛ حيث بدأ بوتين الحرب من أجل السلام وتحاول الولايات المتحدة فرض السلام لإنهاء الحرب.
وتكشف منافسة واشنطن مع بكين أيضاً عن سعي الولايات المتحدة للانفراد في صياغة القواعد والمعايير والمؤسسات المهيمنة في النظام الدولي تحت قيادتها. وقد تضيف هذه المنافسة الناشئة مزيداً من التعقيد وتؤدي أيضاً إلى الحرب.
كانت إحدى السمات المهمة لمنافسة الحرب الباردة ثنائية القطب هي أن أي زيادة أو نقصان في قوة أحد الطرفين ستكون خسارة أو مكاسب نسبية للطرف الآخر. لكن التنافس بين القوى العظمى اليوم يشبه ما كان قائماً في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا؛ حيث كانت العديد من القوى العظمى تتنافس بشدة لتحسين قوتها ووضعها العالمي، ما أدى إلى نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية.
الرهانات الأمريكية
الآن في عام 2023، لن تخدم الأخطاء الاستراتيجية الروسية المستمرة بالضرورة المصالح الاستراتيجية طويلة الأجل للولايات المتحدة. ومن خلال فهمها لمتطلبات التنافس مع القوى العظمى في عالم متعدد الأقطاب، اتخذت واشنطن خطوات لزعزعة استقرار روسيا وعرقلة احتمال كسب الصين مزيداً من القوة نتيجة هزيمة روسيا إن تمت.
وإذا كانت لروسيا اليد العليا في حرب أوكرانيا، فيمكن أن تساعد على زيادة القوة النسبية للصين وتضر بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية على المديين القريب والبعيد. وعلى العكس من ذلك، إذا خسرت روسيا الحرب، فقد تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق الفوز على الصين بشكل أفضل.
وفي حين أن الانخفاض النسبي في قوة موسكو إذا حدث بسبب حرب أوكرانيا، فإن الولايات المتحدة تنتظر الفرصة المناسبة لزيادة تفوقها على الصين وحماية مصالحها الحيوية في منطقة أوراسيا دون إضعاف روسيا كثيراً.
ربما تكون روسيا الآن في مأزق استراتيجي بسبب الحرب في أوكرانيا التي أضعفت مكانتها وصورتها العالمية. ومع ذلك، فإن التخفيض النسبي في القوة الروسية الذي تراهن عليه واشنطن، خلافاً لرأي الكثيرين في واشنطن وحلف شمال الأطلسي، قد لا ينتهي لصالح أوروبا والولايات المتحدة بسبب القوة النووية الروسية.
وإذا لم ينجح صانعو السياسة الأمريكيون في التعامل مع ما يسمونه خطأ موسكو الاستراتيجي، فإن استخدام الأسلحة النووية يصبح احتمالاً أكثر ترجيحاً.
وعلى صعيد التوازنات الإقليمية سوف يؤدي التراجع الحاد في قوة روسيا إلى عدم الاستقرار والفوضى في جميع أنحاء أوراسيا ويخلق أزمة ليس من السهل احتواؤها، ناهيك عن أنها تفرض التزامات ومسؤوليات ثقيلة على عاتق الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
وعلى المدى الطويل، ستكون روسيا القوية نسبياً، أفضل من روسيا المهزومة والمقسمة تماماً حتى في ميزان القوة النسبي للولايات المتحدة في مواجهة الصين، بشرط ألاّ تستغل بكين ذلك التوازن بمهاجمة تايوان.
وبالمقابل سوف توفر روسيا الضعيفة والمعزولة فرصة جيدة للصين للاستفادة القصوى من مزاياها الاقتصادية والديموغرافية في الشرق الأقصى والقطب الشمالي. من هنا، فإن التخفيض النسبي لقوة روسيا نتيجة حرب أوكرانيا، مع زيادة قوة الصين، والحد من القوة التنافسية للولايات المتحدة يمكن أن يعمل لصالح الصين على المدى الطويل. وبالتالي، يجد صانعو القرار الأمريكيين والأوروبيين أنفسهم مضطرين للتركيز على تخفيف الآثار السلبية للحرب الروسية الأوكرانية في التنافس طويل الأمد مع الصين، كما يجب عليهم الحفاظ على روسيا من السقوط في الفوضى الكاملة أو التهديد بأن تصبح مستعمرة تابعة لبكين.
في عصر احتدام المنافسة بين القوى العظمى، يعد التقييم الصحيح لديناميكيات البيئة الدولية والقوة النسبية أمراً مهماً للغاية. وإذا لم يتمكن صناع القرار في واشنطن وحلفاؤهم الغربيون من إدارة تراجع قوة موسكو، وبالتالي خروجها من اللعبة، فسيكون العالم على بعد خطوة واحدة من الحرب النووية.