د.أيمن سمير

قدرة الأمم والدول والشعوب على «الاستجابة» لمختلف أنواع «التحديات» تشكل جوهر استراتيجية المؤرخ الإنجليزي «أرنولد توينبي» صاحب نظرية «التحدي والاستجابة»، ومن يحلل الخطاب السياسي والإعلامي الروسي يتأكد له أن روسيا تشعر أنها مستهدفة بمختلف أنواع التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية منذ الليلة الأولى لسقوط وانهيار الاتحاد السوفييتي في 25 ديسمبر 1995، لكن هذا الشعور الروسي بالاستهداف والتحدي زاد يوم 19 ديسمبر عام 2017، ففي هذا اليوم أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب استراتيجية الأمن القومي، وهي الاستراتيجية التي يعلنها كل رئيس جديد يدخل البيت الأبيض منذ ثمانينات القرن الماضي، ويعود السبب لأهمية هذه الاستراتيجية أنها لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي يتم تصوير روسيا مع الصين بأنهما «منافستان استراتيجيتان» للولايات المتحدة على الساحة الدولية، بعد أن كان الإرهاب الراديكالي هو الخطر على أمريكا في كل استراتيجيات الأمن القومي على مدار 16 عاماً منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وحتى ديسمبر 2017

مع إعلان روسيا والصين «كمنافستين استراتيجيتين» للولايات المتحدة في العالم، جرت الكثير من النقاشات والأطروحات حول أفضل السبل الأمريكية والغربية «لاحتواء روسيا»، وطرحت الكثير من البدائل والخيارات والأسئلة، وكان منها على سبيل المثال، هل تتفرغ أمريكا ومعها حلف الناتو لروسيا أولاً أم الصين ؟ وهل تتعامل واشنطن وحلفاؤها الغربيون مع روسيا والصين بالتوازي أم بالتتالي ؟ وإلى أي مدى يمكن استخدام «الوسائل الخشنة أو الناعمة» مع كلتيهما؟ وكانت الخلاصة من وجهة النظر الأمريكية أن روسيا أضعف من الصين اقتصادياً، واقتصادها الذي يبلغ 1.7 تريليون دولار لا يتجاوز الناتج الإجمالي لولاية نيويورك، ولا يساوي أكثر من 50 % من اقتصاد ولاية كاليفورنيا، كما جرى تصوير روسيا في وسائل الإعلام الأمريكية بأنها «محطة بنزين» بها فقط الغاز والنفط واليورانيوم والفحم والكهرباء، لكنها ليست دولة صاعدة تكنولوجياً مثل الصين، ولهذا تم الاتفاق على «احتواء روسيا»، كما جرى من قبل «احتواء الاتحاد السوفييتي»، وكانت أفضل طريقة لاحتواء روسيا هو استعادة تطبيق «نظرية الأناكوندا» على روسيا، و«حلقة النار» على الصين، فما هي نظرية «الأناكوندا»، وكيف يجري تطبيقها اليوم على روسيا بعد الحرب في أوكرانيا؟ وكيف جهزت روسيا نفسها للاستجابة على التحديات التي تفرضها نظرية «الأناكوندا»؟

ما هي الأناكوندا؟

جاءت «نظرية الأناكوندا» من ثعبان الأناكوندا التي تعرف بالإنجليزية «Anacondas» وهي أكبر وأقوى الثعابين في العالم، حيث يبلغ طولها 6 أمتار، وقد تصل إلى 8 أمتار، بينما وزنها يتجاوز 227 كلجم، وأبرز ما يميز «الأناكوندا» أنها «غير سامة»، لكن خطورتها تأتي من التفافها حول الضحية وتخنقها وتعصرها حتى الموت، وهذه هي الفلسفة التي تعتمد عليها الولايات المتحدة والناتو في التعامل مع روسيا، وفق ما يعتقد ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، فالولايات المتحدة من وجهة النظر الروسية دائمة التأكيد على عدم رغبتها في الحرب مع روسيا، لكن في نفس الوقت تقوم بخنق وعصر روسيا حتى تخرج من دائرة المنافسة الاستراتيجية للولايات المتحدة على الساحة الدولية.

ويعود استخدام نظرية «الأناكوندا» إلى نهاية الحرب الأهلية الأمريكية عندما استخدم الجنرال وينفيلد سكوت قائد قوات الشمال هذه الاستراتيجية في حصار قوات الجنوب من الساحل ومن ناحية المحيط بهدف قطع الإمدادات اللوجستية، وهو ما قاد في النهاية لهزيمة جنود الولايات الجنوبية، وسبق أن استخدمت الولايات المتحدة وبريطانيا هذه الاستراتيجية من أجل إضعاف روسيا عن طريق حرمانها من الوصول إلى «المياه الدافئة»، فموانئ روسيا على البحر الأسود هي الوحيدة التي تعمل طوال العام، بينما باقي الموانئ تتوقف طوال أشهر الشتاء، وأول من لفت لأهمية استخدام هذه «النظرية الجيوسياسية» ضد روسيا كان البريطاني هالفورد ماكيند أثناء عمله كمندوب لإنجلترا في جنوب روسيا في الفترة من 1918 و1920، ومع تصاعد التوتر بين الاتحاد السوفييتي والغرب خلال الحرب الباردة، أعاد مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق «زبجينو برجينسكي» تأكيد أهمية تطبيق هذه النظرية ضد روسيا.

5 محاور ضد روسيا

وفي ظل تفاعلات العام الثاني من الحرب الروسية الأوكرانية، يمكن رصد تطبيق «الأناكوندا» ضد روسيا في مجموعة من المشاهد وهي:

أولاً: حزام الخوف.. ويقوم على تخويف كل جيران روسيا الآسيويين والأوربيين من ما تسميه الولايات المتحدة والناتو «بأطماع موسكو» ورغبتها في إحياء الاتحاد السوفييتي السابق، ومن ينظر إلى جيران روسيا اليوم يرى بوضوح كيف نجحت هذه الاستراتيجية ضد الكرملين، فعلى سبيل المثال كان سكان السويد وفنلندا في البداية ضد انضمام بلديهما إلى حلف الناتو، وكانت نسبة التأييد للانضمام للناتو لا تزيد على 25 % قبل 24 فبراير 2022 يوم عبور القوات الروسية الحدود باتجاه أوكرانيا، لكن بسبب تخويف فنلندا والسويد من تكرار نفس مصير أوكرانيا، تجد اليوم جهود حكومتي استوكهولم وهلسنكي للانضمام للناتو دعماً كبيراً من الرأي العام في البلدين، وصل في بعض استطلاعات الرأي لنحو 80%، كما أن الدول القريبة من روسيا هي الأكثر عداءً وصقوريّة لموسكو مثل دول بحر البلطيق الثلاث بولندا ورومانيا وبلغاريا، وهذا الخوف هو الذي دفع نحو 13 دولة لدخول حلف الناتو منذ تولي الرئيس بوتين مقاليد الحكم عام 2000.

ثانياً: «الخروج من العباءة الروسية».. وذلك من خلال تشجيع الولايات المتحدة للدول التي كانت تاريخياً حليفة وقريبة من روسيا على الخروج من «عباءة الكرملين»، خاصة في آسيا الوسطى حيث تقدم الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي أنفسهم كبدلاء للنفوذ الروسي التقليدي في هذه الدول التي تقع على الحدود الروسية مثل كازاخستان التي لها حدود مشتركة مع روسيا تصل لنحو 7500 كلم، فرغم أن هذه الدول لم تُدِن الحرب الروسية الأوكرانية إلا أنها رفضت في نفس الوقت ضم روسيا للمناطق الأوكرانية الخمس وهي شبه جزيرة القرم وزاباروجيا وخيرسون ولوغانسك ودوينيستك، وتكرر هذا الأمر في الدول المجاورة لروسيا باتجاه البحر الأسود مثل جورجيا التي شهدت ما سمّي «بالثورة الوردية» عام 2003، ودخلت في حرب مباشرة مع روسيا عام 2008، قادت لانفصال جمهوريتين عن جورجيا هما أوستيا الجنوبية وأفخازيا، وحالياً يشكل «الفيلق الجورجي» قلب المجموعات الأجنبية التي تقاتل الجيش الروسي في أوكرانيا.

ثالثاً: العداء للأقليات الروسية.. ويُعدّ أكبر التحديات التي تسبب مشاكل لروسيا مع جيرانها هي النظرة العدائية للأقليات الروسية في كل دول الجوار الروسي، بما فيها الدول التي كانت في السابق ضمن حدود الاتحاد السوفييتي، فالولايات المتحدة ومعها الدول الغربية تروّج بأن موسكو سوف تتخذ من الأقليات الروسية في تلك الدول ذريعة للتدخل في شؤونها الداخلية، وترفع واشنطن ومعها دول الاتحاد الأوروبي واليابان وأستراليا شعار«دعم استقلال» هذه الدول عن روسيا، وذلك بدقّ أسافين الخلاف بين شعوب وحكام تلك الدول والأقليات الروسية هناك، وهو ما يضع القيادة الروسية تحت ضغط هائل يقوم على سيناريوهين، الأول هو التدخل ودعم الأقليات الروسية، وهذا السيناريو سوف يكون دليلاً جديداً لصالح الرواية الأمريكية ضد روسيا، والسيناريو الثاني هو تخلي موسكو عن أي مضايقات تتعرض لها الأقليات الروسية، وفي تلك الحالة سيتم اتهام القيادة الروسية بعدم حماية الروس الذين نص الدستور الروسي على حمايتهم أينما كانوا، وليس فقط على الأراضي الروسية، ومثال على ذلك ما يحدث تلك الأيام مع الأقلية الروسية في مولدوفا، حيث حلف الناتو بأنّ هناك خططاً روسية للتدخل هناك لصالح الأقلية الروسية، وهو ما خلق حالة من العداء الشديد بين الأقلية الروسية وسكان جمهورية مولدوفا.

رابعاً: حلقة القواعد العسكرية، ويتمثل في نشر الولايات المتحدة وحلف الناتو «حلقة من القواعد العسكرية والأسلحة» التي يمكن أن تطول العمق الروسي نفسه، من خلال قواعد حلف الناتو في بلغاريا ورومانيا وبولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا، كما تسعى الولايات المتحدة لبناء قواعد عسكرية أو اتفاقيات عسكرية مع دول في آسيا الوسطى مثل طاجيكستان التي بها بالفعل قاعدة عسكرية روسية، وسبق أن نشرت الولايات المتحدة منظومة دفاع صاروخية «ثاد» في كوريا الجنوبية، وهي التي تستطيع كشف جزء من الأراضي الروسية في الجانب الشرقي من روسيا، وفق المنظور الروسي

خامساً: «نشر الأمراض البيولوجية» على الحدود الروسية، وقد برهنت روسيا على جدية هذه الاتهامات عندما وزعت تفاصيل «خطة البنتاجون» لاستهداف روسيا عبر نشر«المعامل البيولوجية» في دول على حدود روسيا مثل كازاخستان وأوكرانيا، وتقول موسكو إنها اكتشفت تلك المعامل بعد أن جرت الأحداث الداخلية في كازاخستان في نهاية عام 2021، كما أن جنودها حصلوا على كل الوثائق حول هذه الخطة في المدن التي سيطرت عليها القوات الروسية في أوكرانيا عام 2022.

ثلاثية روسية ضد الأناكوندا

أمام محاولات الناتو والولايات المتحدة لخنق وعصر روسيا «باستراتيجية الأناكوندا»، وضعت موسكو خطة مضادة تقوم على 3 ركائز رئيسية وهي:

1- «الأنبوب إلى الشرق»، وهي عنوان الخطة الروسية للتغلب على العقوبات الاقتصادية، وتقوم على تحويل الصادرات الروسية من الغاز والنفط والفحم إلى الأسواق الآسيوية كبديل للأسواق الأوربية، ونجحت هذه الخطة في تخفيف الضغط عن الاقتصاد الروسي حتى الآن، وذلك بتحويل كميات من الغاز التي كان تنقلها خطوط «يامال» و «نورد ستريم 1» إلى الهند والصين، بالإضافة إلى الوصول للقوة القصوى لخط «قوة سيبريا الأول» الذي ينقل نحو 38 مليار متر مكعب من الغاز الروسي للصين، ويستعد البلدان لتنفيذ خط «قوة سيبريا الثاني» لنقل 55 مليار متر مكعب من الغاز للصين، وهي نفس الكمية التي كان سينقلها خط «نورد ستريم 2» إلى ألمانيا، لكنه لم يعمل، وجرى تفجيره في سبتمبر الماضي.

2- «القمح مجاناً»، وهي تصريحات صدرت أكثر من مرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن روسيا مستعدة لتوريد القمح إلى الشعوب الفقيرة في آسيا وإفريقيا مجاناً، وهو ما جعل السلوك التصويتي لهذه الدول ليس معادياً لروسيا في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وكثيراً ما تتحدث تلك الدول في آسيا وإفريقيا عن ضرورة احترام «المخاوف الأمنية» الروسية

3-«خلف خطوط الأناكوندا».. وهي رؤية عملت عليها موسكو منذ تطبيق العقوبات الغربية عليها، عقب ضم الكرملين لشبه جزيرة القرم عام 2014، وتقوم على تخطي كل الخطوط القريبة التي تعمل عليها الأناكوندا عبر ذهاب روسيا إلى سوريا، وتعميق علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية مثل كوبا وفنزويلا، وصولاً لخلق علاقات أمنية وعسكرية مع دول في قلب إفريقيا مثل إفريقيا الوسطى.

المؤكد أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو سوف يواصلون محاولاتهم لتطويق واحتواء روسيا سواء «بالأناكوندا» أو غيرها، لكن المؤكد أيضاً أن روسيا لديها من الأدوات التي تجعلها قادرة على الاستجابة لهذا التحدي، وفق تقديرات نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي.

[email protected]


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version