كتب – المحرر السياسي:

لم يكن التحالف الغربي في الحرب الأوكرانية بحاجة إلى ما يزيل غموض هشاشته، أكثر من تسريب الوثائق الأمريكية الذي جاء في أشد الأوقات حرجاً سواء لجهة تعزيز مساعي البحث عن حل دبلوماسي، أو حسم نتيجة الحرب، حيث الحديث عن هجوم أوكراني وشيك، أو لجهة سعي بعض الحلفاء للتملص من مسؤولياتهم تجاه الحرب والانعتاق من ربق النفقات الباهظة الذي لا ينتظر أكثر من ذريعة.

بينما لا تزال خطة السلام الصينية قيد المشاورات وبانتظار زيارة شي بينغ الموعودة لكييف، بحث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو من أبرز أعضاء التحالف، في بكين عن متنفس للكشف عن نوايا باريس التنصل بذريعة حماية المصالح الأوروبية، وهو ما استخلص من نتائج الزيارة، وفهم من حديثه عن المشاركة الأوروبية العقيمة في حرب تايوان المحتملة، فإن في تسريب الوثائق من الذرائع ما يحفظ ماء الوجه لدول أخرى في التحالف تمقت «حرب الاستنزاف الطاحنة» هذه، كما وصفتها الوثائق الأمريكية المسربة.

ويبدو أن مصدر الوثائق بالغة السرية هو البنتاغون، وأن الكثير منها أعده الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، وغيره من كبار المسؤولين العسكريين. وتتضمن الملفات تقارير من جميع أقسام مجتمع الاستخبارات الأمريكية، بما في ذلك وكالة المخابرات المركزية ووكالة الاستخبارات الوطنية وأوامر محكمة بموجب قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية.

مضمون الوثائق

تحتوي الوثائق على تقييمات لمجريات الحرب في أوكرانيا، بما في ذلك معلومات تكتيكية دقيقة عن ساحات المعارك. كما تكشف عن مخاوف عميقة بشأن وهن القوات الأوكرانية ونقص كفاءتها في مواجهة هجوم روسي، لكنها تظهر أيضاً مدى اختراق الولايات المتحدة للجيش الروسي، ما يسمح للإدارة بتحذير أوكرانيا من الهجمات المقبلة. ويبدو أن بعض الإصدارات قد تم التلاعب بها رقمياً لتضخيم القوة العسكرية الروسية.

من هنا فإن الكشف عن تفاصيل أخرى حول مصدر الوثائق ومن يقف وراء تسريبها، لا بد أن يؤثر بشكل مباشر وفوري في روابط التحالف الغربي، وبالتالي على مجريات الحرب ومواقف الدول منها. فهل تم الكشف عن هذه الوثائق من قبل الروس لفضح الضعف الأوكراني وتحطيم الروح المعنوية كما يرجح المحللون؟ أم هل تم نشرها بالفعل من قبل أوكرانيا، كما يعتقد بعض المدونين الروس، في محاولة لإيهام موسكو بأن أوكرانيا ضعيفة، وبالتالي تنجح في إخفاء قوتها الحقيقية قبل الهجوم المضاد المنتظر قريباً؟

أياً كان مصدرها، فإن هذه الوثائق تؤكد حقائق كان بعضها موضع أخذ ورد. أولاً، تواجه أوكرانيا نقصاً حاداً في أسلحة الدفاع الجوي قد يكلفها خسارة الحرب. وهذا ما كشف عنه إعلان الأسبوع الماضي أن الولايات المتحدة كانت تسرع شحنات بقيمة 2.6 مليار دولار إضافية من أنظمة الدفاع الجوي والأسلحة الأخرى. وتتضمن الحزمة الجديدة ذخيرة لنظام باتريوت وصواريخ هيمارس، وبطاريات الصواريخ و 10 أنظمة ليزر مضادة للطائرات من دون طيار، ورادارات جديدة للمراقبة الجوية وذخائر مضادة للطائرات.

وتبدو الأرقام الأولية فيما يخص نقص تجهيزات ومعدات الدفاع الجوي المسجلة في وثيقة بتاريخ 23 فبراير/شباط، مخيفة. فأوكرانيا حسب الوثيقة، تعتمد على صواريخ «إس إيه 10» من الحقبة السوفييتية في 89 في المئة من دفاعها الجوي، وتنفد مخزوناتها منها بحلول 31 مارس(آذار).

كما تشير الوثيقة إلى أنه إذا لم تتمكن أوكرانيا من سد هذه الفجوة، فيمكن أن تتمتع روسيا أخيراً بميزة «التفوق الجوي» لمهاجمة الأهداف الأرضية الأوكرانية متى شاءت. وهذا يعني أن أوكرانيا قد لا تكون قادرة على حشد القوات البرية لهجومها المضاد أو حماية مدنها.

ثانياً، لا تتطابق ترسانة الذخيرة الغربية مع احتياجات أوكرانيا. فمن الناحية النظرية، يجب أن تكون الخدمات اللوجستية هي الميزة الكبرى لأوكرانيا في مواجهة روسيا التي كان من المفترض أن تعيقها العقوبات. لكن هناك شرخ واسع بين استهلاك أوكرانيا من الصواريخ والذخيرة وإمدادات الغرب. يرجع ذلك جزئياً إلى إطلاق الأوكرانيين الكثير من الذخيرة، لكن الوثائق تصف الجهود لإقناع دول مثل كوريا الجنوبية وإسرائيل ببيع أسلحة فتاكة لأوكرانيا بأنها يائسة.

ثالثاً، تبدو إدارة بايدن أكثر نفوراً من المخاطرة من بعض الحلفاء. وتقول إحدى الوثائق إن بريطانيا وفرنسا أرسلتا طائرات حربية إلكترونية مأهولة فوق البحر الأسود، بينما أرسلت الولايات المتحدة طائرات من دون طيار فقط. لماذا؟ الجواب هو أنها لا تريد مواجهة مباشرة مع روسيا.

ثغرة في الجدار الغربي

أخيراً، سمع الصحفيون انفرادياً وعلى مدى أشهر، من كبار المسؤولين الأمريكيين أنهم يعتقدون أن هذا الصراع في طريق مسدود مميت، يكبد الطرفين خسائر فادحة. وتوفر المستندات المسربة لقطة أكثر وضوحاً من خلال تحليل أُجري في 23 فبراير / شباط، و تحدث عن «حملة استنزاف طاحنة» «من المحتمل أن تتجه نحو طريق مسدود».

وتخشى أوكرانيا من أن يعكس هجوم الربيع المضاد هذه الاتجاهات. وتؤيد الإدارة الأمريكية هذه الفكرة. فقد قال مسؤول في الإدارة: «سوف يعتمد الكثير فيما يتعلق بمدى استمرار الحرب على هجوم الربيع».

وطالما أشاد الرئيس بايدن بالتحالف الغربي باعتباره «تحالفاً عالمياً»، لكن النظرة الفاحصة تشير إلى أن العالم بعيد كل البعد عن التوافق بشأن القضايا التي أثارتها حرب أوكرانيا. وهناك أدلة كثيرة على فشل جهود عزل بوتين وأن العقوبات لن توقف روسيا. وإذا ما تناثرت شظايا التسريب وكشفت عن المزيد من المستور مما لا يرغب الكثير من أعضاء التحالف كشفه، فمن المرجح أن تنعكس سلباً على الدعم العسكري والمالي الذي تحصل عليه كييف وبالتالي إضعاف قدرتها على الصمود في وجه التصميم الروسي على بلوغ «العملية العسكرية الخاصة» كامل أهدافها. فهل تفتح الوثائق المسربة ثغرة جديدة في جدار التحالف الغربي المتهالك، وتعزز فرص التوافق على حل دبلوماسي للأزمة؟ وهل تكشف الوثائق المسربة قريباً عن الجواب المفيد؟


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version