كتب: المحرر السياسي
تذكرنا حرب أوكرانيا في كل مناسبة بأن العالم بات منتظماً في خندقين، وأن كل طرف مستمر في التمترس خلف ستائر العناد السميكة رغم الإنهاك والاستنزاف جراء المعارك الطاحنة. وقد عكست الصور التي بثت بمناسبة الاحتفال بذكرى الانتصار على النازية، سواء في روسيا أو دول أوروبا، عنصرين بارزين الأول إصرار روسيا على التصدي للغرب وتحقيق الانتصار، والثاني ظهور التصدعات في جدار التحالف الغربي لجهة الاستمرار في توفير الدعم المالي والعسكري وحتى المعنوي، لكييف.
من أبرز مؤشرات ذلك التصدع الحديث العلني عن جدوى الإنفاق في غياب الإنجازات على الأرض، حتى أن «هجوم الربيع» الأوكراني الذي كثر الحديث عنه أصبح موضع ريبة، في غياب الدعم اللوجستي والمعنوي لحلفاء أوكرانيا الذين طغى التثاؤب عليهم وسط تبدد زخم التأييد الشعبي في الكثير من دول التحالف الغربي سواء كان تعبوياً أو سياسياً.
وكان طبيعياً في غياب الحسم العسكري والعجز عن تحقيق إنجاز يقلب موازين القوى على الأرض، أن تبدأ علامات التململ والضجر في دول التحالف الغربي خاصة تلك التي تعتبرها معارك لا ناقة لها ولا جمل فيها، أو في رهانات المكاسب الحزبية والسياسية التي تحكم آليات عمل الديمقراطيات الغربية.
تحرك جمهوري
في أوائل فبراير/شباط الماضي، قدم النائب الأمريكي مات جايتس، الجمهوري عن ولاية فلوريدا، مشروع قرار بوقف جميع المساعدات العسكرية والمالية الأمريكية لأوكرانيا. في وقت لاحق، قرر الجمهوريون في لجنة الرقابة بمجلس النواب إحياء الذكرى السنوية للحرب الأوكرانية من خلال بدء تحقيق في ملف مساعدات واشنطن لكييف، بحجة أنه حان الوقت للبيت الأبيض كي يسلم صكوك الضمان التي تؤكد أن الولايات المتحدة لا تبدد أموال دافعي الضرائب «بسبب الهدر أو الاحتيال أو إساءة الاستخدام».
وأطلق جايتس على مبادرته التشريعية اسم «الإرهاق الأوكراني»، حيث يروج الجمهوريون لفكرة أن شعور هذا الإرهاق منتشر بين الأمريكيين.
لكن دافعي الضرائب الأمريكيين ليسوا مستفيدين من هذه الجهود الجمهورية لكبح جماح الدعم الأمريكي لأوكرانيا. فمنذ بداية الحرب في فبراير/شباط عام 2022، اعتمدت روسيا على «إرهاق الغرب» من مساعدة الأوكرانيين في قتالها معهم. وسواء أدركوا ذلك أم لا، فإن أعضاء فصيل الحزب الجمهوري المناهض لأوكرانيا يساعدون روسيا على تحقيق أهدافها.
حرب استنزاف
بعد وقت قصير من بدء الحرب اعترفت بعض الشخصيات في الدائرة المقربة من الرئيس بوتين لصحيفة «واشنطن بوست» بأنه كان ببساطة «يدرس حرب استنزاف طويلة» ضد أوكرانيا ومن ورائها الغرب. وقد كثف المسؤولون الروس حملات الدعاية حول تأثير العقوبات الغربية في الاقتصاد الروسي التي سوف تسبب أزمة غذاء وأزمة طاقة على مستوى العالم، وبالتالي تشعر الشعوب في الغرب بالضجر والإعياء من دعم حكوماتهم لكييف، وتطلب حلاً يجنبهم المزيد من المعاناة المادية.
تمكنت الجماهير الغربية في البداية من درء إجهاد التعاطف وحافظت على التزامها بمساعدة أوكرانيا. لكن هذا الالتزام لن يدوم إلى الأبد، بل ربما يكون قد بدأ في التراجع عملياً في العديد من البلدان. لذا يجب على القادة في الغرب الاعتراف بالتكاليف الحقيقية التي فرضتها الحرب على شعوبهم، كما يجب عليهم إطلاع مواطنيهم على كل ما هو على المحك في ساحات القتال في أوكرانيا.
لقد سئم السكان في دول الغرب من هضم الصور التي تؤلم القلب، مثلما سئموا من سيل المعلومات القاتمة، وبدأوا في التململ تحت ثقل قبول اللاجئين، ويخشون من العجز المتزايد عن تحمل معاناة الغرباء أو تحمل التكاليف المتزايدة التي تفرضها الأزمات.
وهناك مؤشرات على أن زخم الدعم والتعبئة المعنوية قد تبدأ في التراجع قريباً أو أنها بدأت عملياً. فقد أظهر الاستطلاع الذي أجراه مؤخراً مركز «انفورميشين ريزيليانس»، وهو منظمة غير ربحية مقرها بريطانيا، أن الدعم العام لتوفير المساعدات المالية لأوكرانيا قد انحسر إلى حد ما في وسط وشرق أوروبا، حتى في الأماكن القريبة من أوكرانيا التي لديها خبرة طويلة في مقاومة الطموحات الروسية. ففي بلغاريا على سبيل المثال، يعتقد 43 في المئة من المشاركين، أن حكومتهم تقوم «بالكثير» من أجل أوكرانيا، وكذا أفادت نسبة 39% من سكان سلوفاكيا.
وهناك اتجاهات مماثلة في الولايات المتحدة حيث يشير استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث في فبراير/شباط، أن ربع الأمريكيين يعتقدون أن الولايات المتحدة تقدم الكثير من الدعم إلى كييف. وعندما حدث التسرب الكيميائي في أوهايو في فبراير/شباط، تساءل بعض المحافظين عن سبب زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لكييف بدلاً من زيارة المنطقة المتضررة من التسرب.
ومنذ بداية العام، سعى المؤثرون البارزون من المحافظين إلى تشويه صورة معاناة الأوكرانيين على وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها صوراً مزيفة، بينما أصروا على أن النقص المزعوم في صور القتال في الحرب في أوكرانيا يشير إلى أن الصراع مؤامرة ملفقة. والنتيجة الطبيعية لمثل هذه الادعاءات هي اتهام إدارة بايدن بأنها تذكي الصراع لتبرير السخاء غير العادي في دعم أوكرانيا.
في بداية الحرب ساعدت بعض العوامل على الحفاظ على دعم شعبي قوي لأوكرانيا. أولاً، شعر الأوروبيون والأمريكيون بقدر أكبر من التقارب والصلات- ثقافياً وجغرافياً – مع أوكرانيا، والأوكرانيين، ونضالهم من أجل «الحرية» مقارنة بالدول الأخرى التي تعاني أزمات.
ثانياً، تلقى اللاجئون الأوكرانيون استقبالاً حاراً وترحيباً في أوروبا أكثر من أولئك الفارين من الصراعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا.
ثالثاً، يعتقد العديد من الأوروبيين أيضاً أن أوكرانيا هي حصن ضد المزيد من التوغل الروسي في أوروبا.
وتدعو العديد من مراكز الفكر والخبراء الاستراتيجيين الولايات المتحدة وحلفاءها إلى أخذ مخاوف مواطنيهم على محمل الجد، وتقديم حسابات شفافة حول المساعدات التي تقدم لأوكرانيا، وإطلاع المواطنين بانتظام على دعم المجهود الحربي.