د. محمد فراج أبو النور*

الاضطرابات تجتاح أوروبا، وتصيب الحياة في عدد من أهم عواصمها وبلدانها الكبرى بدرجات متفاوتة من الشلل، ولا تكاد تهدأ في مكان حتى تنفجر في مكان آخر، ملايين العمال والموظفين يضربون عن العمل احتجاجاً على تآكل أجورهم بسبب التضخم الجامح الذي بلغ أكثر من (10%) في أغلب الاقتصادات الأوروبية، وعلى الزيادة الضخمة في كلفة فواتير الطاقة والمحروقات ويطالبون بزيادة عاجلة للأجور لمواجهة الأسعار التي أصابها الجنون.

التضخم المنفلت وأزمة الطاقة الخانقة في أوروبا هي أعراض لأزمة طاحنة أخذت بخناق الاقتصاد العالمي كله، وفي القلب منه الاقتصادات الأوروبية. فلم يكد الاقتصاد العالمي يبدأ في التعافي من آثار جائحة كورونا وما ارتبط بها من إغلاقات واسعة، وتباطؤ في النمو، وتعويضات ضخمة أثقلت موازنات أغلب الدول، واضطراب في سلاسل التوريد، وتصاعد للتضخم، حتى داهمته الحرب في أوكرانيا، التي تمثل تعبيراً مكثفاً عن المواجهة الشاملة بين روسيا والناتو بقيادة الولايات المتحدة، بما صاحب هذه الحرب من عقوبات غير مسبوقة، وانعكاسات على إمدادات الطاقة – عصب الاقتصاد – وعلى التجارة العالمية عموماً.

العقوبات وآثارها العكسية

العقوبات الاقتصادية ضد روسيا سرعان ما اتضح أنها سلاح ذو حدين، وخاصة في مجال الطاقة، نظراً للاعتماد الأوروبي الكبير على إمدادات الطاقة الروسية، الذي كان (في بداية الحرب) يبلغ أربعين في المئة من استهلاك أوروبا للغاز الطبيعي (ترتفع إلى 55% بالنسبة لألمانيا) وخمسة وثلاثين في المئة من استهلاكها للنفط ومشتقاته، وخمسة وأربعين في المئة من استهلاكها للفحم الحجري.

واتخذ الاتحاد الأوروبي، قراراً بحظر استخدام الفحم الروسي (بدءاً من 5 أغسطس) وحظر استيراد النفط الخام بدءاً من (5 ديسمبر) والمشتقات البترولية (بدءاً من 5 فبراير 2023) ومن الغاز الطبيعي الروسي بنهاية عام 2023.

أجواء المواجهة العسكرية والسياسية والاقتصادية وحدها كانت كافية لإشعال أسواق الطاقة التي تتسم بحساسيتها البالغة، وضاعفت أسعار الغاز الطبيعي بالذات عدة مرات خلال الشهور التالية لاندلاع الحرب لتتذبذب فوق الألفي دولار لألف متر المكعب لعدة أشهر، وخاصة مع اقتراب الشتاء.

المشكلة الكبرى التي واجهت دول الاتحاد الأوروبي هي أن العقوبات وقرارات الحظر ضد موارد الطاقة الروسية تم اتخاذها تحت ضغوط أمريكية شديدة، دون توفر البدائل الضرورية، والتي يحتاج توفيرها إلى وقت، فضلاً عن ارتباط الدول المنتجة للغاز والنفط بعقود مع دول أخرى، بحيث لا تستطيع تحويل إمداداتها نحو أوروبا دون إخلال تعاقداتها.

وأدى هذا إلى نقص حاد للغاية في إمدادات الغاز الروسي (155- 160 مليار م3) للاتحاد الأوروبي، نتج عن ارتفاع حاد في الأسعار، ونقص فادح في الإمدادات لم يتم تعويضه إلا جزئياً.. ومن ثم تعطلت محطات كثيرة لتوليد الطاقة الكهربائية، وجرت إعادة محطات تعمل بالفحم إلى العمل.. وتوقفت عشرات المصانع عن العمل، وخاصة في ألمانيا.

البدائل المكلفة.. والتضخم

البدائل المتاحة لأوروبا كله تتمثل باستيراد «الغاز المسال» وخاصة من أمريكا.. وهو بديل مكلف بسبب نفقات النقل، وضرورة إقامة منشآت لإعادة الغاز المسال إلى الحالة الطبيعية.. الخ، وكان طبيعياً أن تؤدي زيادات أسعار الطاقة – ضمن عوامل أخرى – إلى زيادة كلفة الإنتاج، ومن ثم إلى التضخم الذي بلغ أكثر من عشرة في المئة في أغلب الدول الأوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا.

ومن ناحية أخرى، فقد باعت أمريكا الغاز المسال للدول الأوروبية بأضعاف سعره في السوق. واشتكى الرئيس الفرنسي ماكرون مراراً من أن واشنطن تبيع الغاز لأوروبا ب«أربعة أضعاف سعره».

الأزمة الاقتصادية.. وانفجار الغضب

التضخم ونقص الإمدادات واضطراب سلاسل التوريد عوامل أدت إلى تباطؤ شديد في نمو الاقتصادات الأوروبية (والعالمية) وضعها على حافة الركود، فألمانيا مثلاً حققت نمواً قدره (0.4%) في الربع الثالث من المتوقع أن ينقلب إلى انكماش بنسبة (0.3%) من الربع الأخير أكثر من ذلك العام المقبل حسب الإحصاءات الرسمية. أما بريطانيا فقد حققت انكماشاً قدره (0.3%) في الربع الثالث من المتوقع أن يزداد خلال الربع الأخير والعام المقبل حسب أرقام مكتب الإحصاء الوطني البريطاني.

وفي ظل هذه الأوضاع المتأزمة، ومع انفلات التضخم والارتفاع الهائل لكلفة التدفئة في الشتاء، وتآكل أجور العاملين، فضلاً عن البطالة المتزايدة، بسب تباطؤ النمو.. كان طبيعياً أن ينفجر الغضب الاجتماعي في بلدان أوروبا ويتزايد اتساع الإضرابات والتظاهرات، والمطالبة بمراجعة سياسات العقوبات ضد روسيا، التي أضرت بالاقتصادات الأوروبية.

أمريكا تعمق الجراح الأوروبية

هذه الأوضاع كلها أثارت انقساماً في الاتحاد الأوروبي، فالمجر وسلوفاكيا والتشيك مثلاً دول داخلية لا سواحل لها، والمساعي الأوروبية والبريطانية لإغلاق خط «دروجيا/ الصداقة» الذي ينقل البترول إليهما يغضبهما كثيراً، لأنه يمثل تهديداً بتدمير اقتصادهم. وبديهي أنها لا تستطيع الحصول على الغاز المسال لأنها دول داخلية.

أما أمريكا فقد وجهت ضربة قاسية إلى الحلفاء الأوروبيين برفعها المتوالي لسعر الفائدة، وسن قانون مكافحة التضخم الذي يقدم دعماً يصل إلى أربعمئة مليار دولار لشركاتها لمواجهة الأزمة وكانت النتيجة هي بدء تدفق رؤوس الأموال الأوروبية إليها؛ حيث يتمتع سوقها بأفضلية إمدادات الطاقة الوفيرة والأرخص وتتزايد قوة الدولار تجاه اليورو وغيره من العملات وهو وضع سيعمق مشكلة تباطؤ النمو الأوروبي، وإمكانية تحوله إلى انكماش تضخمي وهو الأسوأ.. بينما تقبع أمريكا آمنة ومزدهرة خلف المحيط.. وتستمر الحرب في استنزاف روسيا وأوروبا معاً والاقتصاد العالمي بأسره.

* كاتب مصري


شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version